سرير الكوابيس

قال أبي: – لا تفتح الباب لنساء المدينة .. الحسرةُ في الحب لا في الموتِ. قال أبي: لا تدخل الليل إلا وحيداً .. لا تحفر قبركَ بعيداً عن الماءِ. قال لي جدِّي لأبي: احفظ الله.. يحفظك

كنتُ أرتقي سُلّم البيت ببطءٍ كعجوزٍ لأتابع دوران ذكر البط حول دجاجةٍ عمياء حَرّمتْ جدِّتي ذبحها، وقبل عشر سنوات ماتت جَدِّتي عمياء فذبحنا الدجاجة بعد الأربعين بيوم..كنتُ كمن يرعى أغنامه في العتمة خوفاً من الذئاب التي تختبئ في الحقول الجافةِوآخر الليل أشد الغطاء على وجهي هارباً من شياطين غابة النخيل التي شربت من دماء خمسة رجال قُتلوا في منتصف النهار، كنتُ أسمع عن العفاريت التي ترافق خال أمي حين يسرقه الوقت في فدادينه البعيدة، فيعود عبر الطريق الترابي في الواحدة صباحاً محاطاً بأصدقائه “الطيبين”، لم أكن أفهم كيف تكون العفاريت طيبة مع خال أمي، ولماذا ترتعش أوصالنا – نحن الصغار – عندما نسمع عنها، كنتُ غارقاً في الأسئلة الكبيرة، فاتحاً فمي وعيني دهشة لحظة يروي الخال العجوز كيف تأتي العفاريت على أنفاسه وتؤنس وحدته طوال الطريق، وتتسع فتحتا العينين الضيقتين عندما يبالغ الرجل في حكاياته فيقص عن العفريت الذي انقلب له حماراً ليستقله إذا هدّه التعب، وأسأله: كيف؟، فيقول الذي ملأ رأسي خرافات: “إذا رأيت بعد منتصف الليل حماراً في الظلام اغرس في جسده إبرة ليبقى على هيئته التي رأيته عليها، فهو عفريت ابن عفريت تجسد لك على شكل حمار فلا تتركه إلا والإبرة في بطنه، وحين تنزعها عنه يعود شبحاً خفياً..”. كنتُ أسمع منه ولا أكذبه فيكبر خوفي من غابة النخيل القريبة من البيت، ولا أذهب إلى سريري للنوم إلا إذا وضعت الأم لمبتين يشتعل خيطاهما بالكيروسين، وبقيت إلى جواري حتى يغلبني النعاس. كانت القرية الصغيرة قبل نعمة الكهرباء مثل قبر كبير يلفها السكون والرهبة، ولا يقطع هدوءها الثقيل إلا أصوات الكلاب الضالة على الطرقات الترابية، وكانت حكايات القتلى في خصومات الثأر تسرق طمأنينة الكبار، فلا ينامون إلا إذا أغلقوا أبواب البيوت بالمتاريس، وتبادلوا السهر أمامها، فيما يرتعش الصغار كلما اخترقت السكينة الهشة رصاصات البنادق هنا وهناك، فيستيقظ في قلوبهم الرعب من زحف العفاريت على فراشهم. وفي الصباح نلتف حول الخال العجوز فيتباهى ثانية بما جرى له ليلة الأمس، وكيف رأى شبح قتيل يصرخ طالباً الماء والثأر، فلا أعطاه الماء ليروي ظمأه، ولا يد له من قريب أو بعيد ليأخذ له بالثأر، فأسأله: كف تركه شبح القتيل دون أن يؤذيه، فيبتسم الخال الذي سقطت نصف أسنانه، ويزهو بأن روحه مباركة، وأن العفاريت لا تؤذي إلا من يؤذيها..كنتُ أرتقي سُلّم البيت ببطء كعجوزٍ لأصعد إلى غرفة النوم المغلقة نوافذها بالكتب القديمة، والصناديق الخشبية التي ذهب لونها، وحين تجري الرياح يخرج من بطنها صفير حاد فأظنه صوت القتيل الذي يطلب الماء والثأر، أصرخ في طفولتي كمن تلبسه الجان، فتلهث الأم خلف صوتي وتربت على الكتف الصغير حتى تقف قشعريرة الخوف، فيما يغضب الأب لأن طفله مسكون بالضعف، لأن رجولة صغيرة لا تكفي ليواجه بها عفاريت الحكايات، تضم الأم وليدها فينهرها الأب، ويقسم بأن الولد ضائع لا محالة..كنتُ أسير بمحاذاة مقبرة العائلة ببطء، المقبرة التي تتوسط البيوت، وتأكل الرجال والنساء واحداً وراء الآخر، أسير ببطء أتمتم بالفاتحة للأخت الشهيدة، والجدِّ المهيب، وأكره وجه الحفّار الذي رأيته ذات مرة يدفن طفلاً صغيراً مات “بالحصبة”، وبكت خلفه أمه وأهالت التراب على وجهها حتى ذهب ضوء عينيها. .. .. قـــــال أبي لا تفتــح البــاب..، الحسرةُ في الحب..، لا تدخل الليل..، لا تحفر قــــبــرك بعيـــداً.. فلماذا إذا نمت فتحت الكوابيس أبوابها، ورقصت العفاريت على سريري..؟

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

عفاريت جرجس شكري

Default thumbnail
المقالة التالية

بعيداً عن ..البندار

اخر المقالات من سيرة الحنين والفوضى

THE VOICE OF ENIGMA

بالأمس قررت أن أكون وحيداً مع صوت “إنيجما”، قررت أن أكون مخلصاً لها لمرة واحدة، وفي