سارقُ النار

لا لغة تقدر أن تكون الريح إذا شاءت أن تصف الريح إلا إذا كان كاتبها عاصفة، ولا عاصفة في الشعر والحياة غير “آرثر رامبو”، البوهيمي المتحركة قدماه في التجريب، والجنون. هو الرائي، الراقص على الموج، الفرنسي المجبول على العناد، تابع رأسه، مقتفي أثر روحه في الأبدية، الناثر العبقري، شاعر الجحيم، وطفل الإشراقات، السريالي الأول،  المتحدث إلى الوردة، أو قل سامع اسم الوردة، ألم يقل: “أنا المُتعقّب الأزليّ”:
أول مبادرة،
في الدرب الضيق
المليء بالإضاءات الطرية والشاحبة
،
جاءت من زهرة قالت لي اسمها“.
لنتخيل الآن، ليتخيل كل منا لو أن زهرة قالت لكل منا اسمها، ما الذي سيجرى؟ هل سنرى العالم كما كنا قبل نطق الزهرة؟ هل سنكتفي بصباحات باردة، ومساءات مكررة؟ هل سنمد أيدينا إلى ثلاجة اللغة لنقول ما قاله بشر ينامون تحت التراب ملايين السنين في الأبد؟
لو أن وردة واحدة قالت لنا اسمها، هل سنطل من شرفة ضيقة على العالم، أم ننا سنجعل الشرفة بحراً، عاصفة، جنوناً، عالماً جديداً يسكنه في قادم الأيام الراؤون، البوهيميون، حفاة الروح، أولئك الذين ألقوا بأحذية التكرار في النار، أولئك القادرين على مواجهة الذات، وتمزيقها لأجل أن تتجدد لأن تتكرر، ولذلك يهديهم رامبو ناره، يأخذ من اليأس تمرده ليعيد تشكيل ما يظنه ثقلاً عظيماً وخانقاً:
سعارُ اليأس يدفع بي في وجه كل شيء: الطبيعة، الأشياء، أنا نفسي، هذا كله الذي أريد تمزيقه“.
ذلك هو لا غيره، هو المبادر، الهارب من الدروب الضيقة، كاره الشحوب ولو كان ضوءاً. ذلك هو حامل الإشراقة، عارف ما نجهل من لغات الطير والورد، وكيف لعبقري جرح الثبات في السادسة عشرة وأنهى مهمته الأبدية في التاسعة عشرة أن يكون عابر قصيدة وكفى، ذلك قدره أن يجيء ليهدم بعنفٍ، ويبني بعنفٍ، ويترك خلفه غرائب ما عاش واشتهى، بهاء ما كتب، وبهاء ما رأى:
بعد الطوفان
مباشرة بعد أن هدأ الطوفان،
أرنب بري توقف بين العشب
والنرجسات المتمايلة
ورفع ابتهاله إلى قوس قزح
عبر خيوط العنكبوت
“.
ابتكر رامبو طوفاناً مدهشاً، طوفاناً لا يخيف إلا أولئك الجالسين في استرخاء تحت شجرة الشعر العمياء، طوفان رامبو الشعري جرف أمامه الجثث المتحللة في اللغة والرؤيا، ووهب للشعر في ثلاث سنوات فقط عطايا روحه، العطايا التي غيرت وجهة القصيدة، وفتحت آفاق السريالية، وأسست لفاصلة أبدية في تاريخ الشعر، فاصلة تؤرخ لعالمين، ما قبل، وما بعد رامبو، ألم يقل في إحدى رسائله:” على الشاعر  أن يجعل من نفسه رائياً عبر اختلال مدروس طويل هائل لكل الحواس، لكل صور الحب، الألم، الجنون، عليه أن يبحث، يستنفد كلّ السموم في نفسه، ولا يحتفظ منها إلا بالجوهر.“.
لا لغة إذاً تقدر أن تغير مشهد الشعر، تجر القصيدة من ضفيرتها وتحلها بعنفٍ غير لغة رامبو، فهو الشاعر نفسه الذي يصفه بسارق النار، أليس الشاعر عنده هو أن :” يُصبح بين الجميع، المريض الأكبر، المجرم الأكبر، الملعون الأكبر“.  جاء رامبو بقصيدته لتؤنب ما كان قبلها من قصيدة، تقول لها: اخرجي أيتها القصيدة، رفرفي عالياً على سارية النثر، كوني حافية، دعي قدميك تلامسان العشب أو الجمر، ابتهجي أو احترقي، لأن في الحالتين فرح، وفي الميتتين بهجة الأبدية:
آه فليتصدع هيكلي، آه فلأغرق في البحر

كأنما صنع هذا الطفل العبقري ولادة جديدة للشاعر أينما كان، ثم قرر الهجرة المزدوجة، هجرة الشعر، والوطن، تاركاً للريح أن تأخذه إلى قسوة وروعة الشرق، تاجراً عاش في اليمن والصومال يصدر البن والجلود والمسك ويستورد البنادق، مكتفياً من الكتابة برسائل حنين وشكوى إلى من هم في باريس، تورمت ركبته من مرض مجهول، فعاد إلى فرنسا لبتر ساقه، الساق التي أثقلها والترحال، والجنون. دفن رامبو ساقه اليمنى، وبقي على هجرته للشعر حتى مات في السابعة والثلاثين من عمره، مات ما تبقى من جسده، فيما بقيت روحه وقصيدته في أبدية ربما كان يقصدها لذاته

لقد تم العثور عليها
ماذا؟ الأبدية.
إنها البحر
الممتزج بالشمس

 

مقال كاريكاتيزما – مجلة الصدى – 2 أكتوبر 2011

1 Comment

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

العبقري

المقالة التالية

امرأة.. أَمْ غابة حزن؟

اخر المقالات من تحت ظلال الآلهة

العبقري

  كان غبار القرى لا يزال رائحة قميصه حين كانت تتكرر مصادفات المصعد في المبنى الزجاجي،

ما أجمل ضحاياك

قبله هل كان الشعر يمشي على الأرض؟ قبله لم يكن للشعر قدمان، كان له أجنحة لا

من يكره فيروز؟

  أنا أكره فيروز طاوعه لسانه وقلبه مرة ونطق بها، تورط في غضبة الغيرة، ولم يكن

الفرح المتاح

  مات ولم أزل أحبه، ربما لأن الموتى الجميلين يستحقون الاعتراف بالحب، يستحقون أن نقولها بعدهم