زيارة القلب العجوز

من قال إننا مهرة في الهروب؟ من قال إننا نملك سراديب سرية نعبر منها إلى أيام جديدة، ونترك وراءنا كل ما عشناه فرحاً أو حزناً؟ من كذب هذه الكذبة الكبيرة علينا، وأوهمنا بأن باستطاعة الإنسان- لو أراد- أن يصبح في مكان ما، وفي زمن ما، صفحة بيضاء يكتب فيها ما يشاء، ويضع داخلها صوراً جديدة لبشر جدد؟
هل نملك هذه السراديب؟ هل تقدر، أنت أو غيرك، أن تصبح هذا الرجل أبيض الذاكرة والقلب؟ ولماذا تبدو العودة إلى الأماكن القديمة اختباراً في التحمّل؟ هل تستطيع أيها المسافر إلى ماضيك، إلى هواء شق رئتيك فصرخت صرختك الأولى، وتراب لامسته قدماك الصغيرتان؟ هل تملك أن تعبر هذه الأماكن ملثماً، بقناع، داخل سرداب؟ وإلى أين تهرب إذا كان هروبك فاتحة لحقيقتك؟
السيد العجوز ليس بالقطع (كلير تسافانسيان) في مسرحية الكاتب السويسري الشهير فريدريش دورينمات (زيارة السيدة العجوز)، لأن سيدة دورينمات ذاقت المرارة والمكر من رجلها المخادع عندما كانت نضرة تضج بالجمال والأنوثة، وحين يهجرها دون أن تهتز له شعرة أمام توسلاتها تشد الرحال إلى أمريكا لتصبح على درجة ما من المكر (كأنما الضحية هنا صورة أخرى لجلادها) فتمارس مع الأثرياء لعبة الحب والفرار بالملايين، كان لدى السيدة العجوز حلم الانتقام الراقد في قلبها كثعبان ضخم تجهزه ليوم تكون فيه قادرة على أن تحرق قلب وكبد رجلها البعيد، وحين تعود إلى بلدتها تشتري الناس بالمال وتغريهم لقتله.
لكن سيدنا العجوز الذي نروي عنه لا يحمل في قلبه ضغينة أو رغبة في الانتقام من أحد، ربما من نفسه إذا جاز أن نقيس صراعه بين عالميه القديم والجديد باعتباره خيانة للأول في ظل غيابه الطويل عنه، وذوبانه في عالمه الجديد حتى إن بدا الصراع دلالة على عدم حسم معاركه الداخلية.
السيد العجوز وهو يجهز حقائبه لسفر إلى الخلف، إلى بلدته البعيدة، إلى جذوره العميقة في الجنوب، لم يصل بعد إلى إيقاف هذا التوتر المشتعل جهة اليسار (القلب تحديداً)، هو هناك دائماً، كما هو هنا دائماً، هو ذاته الذي يحصي ويرتب هداياه ويكذب على نفسه حين يوهمها بتذكّر أبناء الأخوات والعمات والجيران، فيسمي الهدايا بأسمائهم، هو خائب كطفل أمام واجهة المحال، يأخذ من كل صنف اثنين، ويقول: ربما زادت الأطوال.. وامتلأت الأجساد، ربما كبر الذي تركه طفلاً، وتزوج الذي كان شاربه خطاً رفيعاً تحت أنفه، ها هو السيد العجوز في ورطة العودة يكشف دماءه المتوترة بالعائلة، هذا الحب المتقد حين يصبح السقوط في اختبارات الحياة صارخاً، العائلة.. يقولها وهو يدرك أن ثمة ثقلاً خرافياً يجثم على صدره أحياناً حين يفترض فيه الآخرون أن يكون قلبه سريراً ضخماً لأحلامهم الممكنة والمستحيلة.
السيد العجوز لا يكره العودة لكنه يكره أن يضبط نفسه متلبساً بإحصاء ما جرى، هناك، حين يسأل عن هذا وذاك، عن هذه وتلك، فتمتلئ يداه بحكايات من ماتوا.. ومن سافروا.. ومن أقعدهم المرض تحت سقف زمن يتحرّك ببطء كالسلحفاة.
السيد العجوز، المسكون بالناس، لا يدرك- وهو يمسك بتذكرة الطائرة- أن ثمة أناساً آخرين لا يعرفهم في البلدة التي يعرفها، وأن خريطة الوجوه والذكريات لن تدله إلا عبر سراديب قديمة.


اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

قهوة الصباح المرّ

المقالة التالية

مسافات هائلة من النسيان

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت