رسائل الأماكن

كيف استطعت بحنجرة ولحن أن تجهز الفتى للحسرة في الحب؟ في ماضي القرى استدرجتَ روحه بأغنية يوم كان الليل أغنية، كتاباً للساهرين، وعابرو طرق التراب قادمون من زيارات وعزاءات، وللكلاب نباحها خلف اهتزازات العصا، فيما يطل الفتى من نافذة خشب وطين، يقظته من غرائبه إذا حل النعاس على بشر البيت وبهائمه، معلق بأصوات تجئه من صندوق المذياع، يخفض الصوت حتى لا يضبطه أحد، فيما يرفع سبابته باتجاه نجمة في سماء بعيدة.

 كان صوتك غير ما سمع من لهجات، وأنت تشد النبرة فتشد شريانه:( وليلة كانت الفرقا، وقالت لي .. فـ أمــان الله، وليلة ذكرها يبقى على جرحي.. ولا أنساه، وجت تاخذ رسايلها ..و خصلة من جدايلها، وتديني جوباتي، بقايا عمر، بسماتي، وقالت لي.. فـ أمــان الله).

كان صوتك غير ما ذاق الفتى من عسل الأصوات وحزنها ، كأنك قرين “حليمه” الذي كان يتبعه في الحب والفقد، فيرتج القلب ، يود ولو يبكي على من تبكيهم أنت بالغناء: (في ليله كنها الليلة عرفتك بسمتي و فجري، و ليلة زي ذي الليلة وهبتك في الأمل عمري، يا ليت البسمة ما كانت ولا الإحساس، ويا ليت الدنيا خانتني وكل الناس، ولا خنتي هواي إنتي، ولا قلتي .. فـ أمـان الله)

سنوات وهو يصمت عن سؤال: هل اليتم بيت الأصوات الجميلة؟ هل في اليتم يد من حزن  تلمس الحناجر فلا تشبه في الغناء غيرها؟  لم يكن صمت السؤال إلا حيرة أما صوتين في قلب الفتى: “حليم” وأنت، أنتَ الذي فارقك الأب في السادسة من العمر، فذقت الأسى، وجربت الفقر والحزن، كيف عبرت إليه هكذا على عربة مذهبة من الموسيقى؟، كيف استطعت أن تقنع النغمة أن تكون تذكرة روحك إلى حيث ذهب الصوت وذاع؟

 ثمة نخلة أمام البيت سمعتك فطاب تمرها، ثمة طيور صغيرة احتلت شرفة الخشب والطين، والجارة المشغولة بشجرة الموز، تركت سؤالها على أول الطريق: مال الفتى معزول، هل مسه الصوت، أم أن “الرسايل” حكايته في القادم المجهول؟

كان الزمن يركض بعربته على جسر التراب، والفتى يحملك من أرض إلى أرض، يقول اسمك إذا سأله الناس عن أصوات مسته بسحرها، اسمك في قائمة الأصابع الخمس، كأنما كان يدرك أن “أماكن القلب” لن تحلو إلا بصوتك، أخذت الفتى من أغنية إلى أغنية، عبرت به من ريح إلى ريح، وحططت به على بهجة وحسرة: (الاماكن كلها مشــتاقة لك، والعيون اللي انرسم فيها خيالك، والحنين اللي سرى بروحي وجالك، ماهو بس أنا حبيبي، الأماكن كلها مشتاقة لك).

كانت ثمة يد تنام في يد، ثمة وسادة من حريرالأصابع تسكن دمه، وشوارع شاهدة على فرح وطفولة. إنه أنت أيها العبقري، قيدت الفتي بحالتين، بأغنيتين، ما بعد ” الرسايل”، وما قبل ” الأماكن”، وبينهما يذهب الفتى ويجيء

 

مقال ( كاريكاتيزما ) – مجلة الصدى – 22 مايو 2011

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

جنون دالي من جيم جالا

المقالة التالية

وكالة شلبي

اخر المقالات من تحت ظلال الآلهة

سارقُ النار

لا لغة تقدر أن تكون الريح إذا شاءت أن تصف الريح إلا إذا كان كاتبها عاصفة،

العبقري

  كان غبار القرى لا يزال رائحة قميصه حين كانت تتكرر مصادفات المصعد في المبنى الزجاجي،

ما أجمل ضحاياك

قبله هل كان الشعر يمشي على الأرض؟ قبله لم يكن للشعر قدمان، كان له أجنحة لا

من يكره فيروز؟

  أنا أكره فيروز طاوعه لسانه وقلبه مرة ونطق بها، تورط في غضبة الغيرة، ولم يكن