صرخة مفاجئة أشبه بإنذار حريق في السابعة صباحاً، كنت أتقلب في سريري مسكوناً باليقظة التي يعقبها القفز الفجائي إلى أرض الغرفة، ومن بعدها أرض الواقع وطقس الحمام البارد والطارد لبقايا النعاس.
– آه ه ه ه ه
سكين ملتهبة تشق الظهر فيتصلب البدن كشجرة عتيقة لا تقوى أغصانها حتى على حركة بسيطة تشير إلى الحياة ، كان عليّ أولاً أن أستوعب هذا الألم الخرافي الذي استيقظت به، وكان عليّ ثانياً أن أدير ماكينة جسدي بهدوء وذكاء، سأتحرك إذن ببطء ناحية اليمين (آه ه ه)، لنتراجع عن هذه الفكرة الحمقاء وأتحرك يساراً (آه ه ه)، ليس أمامي سوى اتجاه واحد هو الوقوف لأعلى ومن ثم النزول وقوفاً من السرير ( آه ه ه).
يبدو أنني مقدم على خيارات غير تقليدية، الوضع الاستراتيجي لموقفي غير مطمئن إطلاقاً، والألم يسيطر على منطقة الظهر تماماً، ولا حيلة لدي، والتحركات التكتيكية في الاتجاهات المختلفة باءت بالفشل الذريع، ماذا أفعل الآن؟
عيناي معلقتان ببياض السقف، كأنني أرى سقف الغرفة لأول مرة، ثمة ضوء صباحي غير منسق يمتد مثل شخبطات طفل عابث في بياض السقف، ما بك أيها الأحمق، هل هذا وقت التفكير في الضوء والسقف وشخبطات الطفولة، فكر الآن كيف ستهبط بقدميك على السجادة الحمراء الصغيرة بجوار السرير، لم أكن أحسب من قبل أن الارتفاع البسيط التافه ما بين خشب السرير والأرض يمكن أن يكون يوماً أشبه بجوف هائل يفصل بيني وبين الحياة، أوليست قدرتي على الحركة في هذه اللحظة تعادل إحساسي بالحياة كلها؟ كدت في جنون الصمت وقلة الحيلة أمسك بهاتفي وأطلب شرطة النجدة لتنقلني إلى المستشفى الملاصق للبناية التي أقطنها، آه أيها الذكي وكيف ستدخل إليك شرطة النجدة وباب شقتك موصد من الداخل؟ بقيت لأكثر من نصف الساعة أهذي صامتاً وساكناً كقطعة من الصخر، كلما حاولت تحريك جسدي صرخت كطفل (آآآآآآآه)، وبدا لي في هذياني أنني أرى وجه أمي، كأنني كنت دون وعي ألتمس منها دون غيرها أن تمد يدها وترفع جثتي من فوق خشب السرير، ولأنني تعودت ألا أجعلها يوماً تشعر بعجزي ومرضي، ولأنني تعودت ألا تراني ضعيفاً ومهزوماً حتى لا أكسر قلبها، وأزيدها هماً على همومها، تحايلت على وجعي ولعبت مع آلام ظهري لعبة العناد والتحمّـل، وكتمت آهاتي وأنا أحرك جسدي كقطعة شطرنج أخيرة تفصل ما بين المكسب والخسارة، رفعت نصفي الأعلى كأنني أشد سكيناً من لحمي الحي، وأدرته ببطء باتجاه الأرض التي ظننتها للحظة أبعد من السماء السابعة، ولمست السجادة بأصابعي، يااااااااااه .. أخيراً. عشر دقائق أخرى من السكون والصمت، عشر دقائق كانت فيها حواسي كلها متوحدة تستطلع حركة الألم واتجاهاته المتوقعة، وبالصبر والتحمّـل واستدعاء وصايا الجد والأب في أن الرجولة صبر على الأذى والمرض والمصائب، وصلت إلى باب المستشفى خطوة خطوة، وأنا أرى الناس مندهشاً كيف يمشون مسرعين هكذا، كأنني بالأمس لم أختبر المشي والجري والقفز، وحين أخذني المصعد إلى الطابق السابع، إلى عيادة العظام، سألتني موظفة الاستقبال: – أي طبيب تريد؟ – لا أعرف، أريد طبيباً بأسرع وقت – هناك الدكتور خالد والدكتور قيس والدكتور جاك ووجدتني في ثوان أختار الدكتور (جاك) لأسباب تنم عن سذاجة وثقافة متوارثة لا علاقة لها بالمنطق أو الكفاءة، كنت سجين فكرة أن الأجنبي هو الأفضل، ولماذا أختار خالد أو قيس إذا كان في مقدوري أن أختار جاك، فهذا الـ(جاك) طبيب أوروبي وهو حتماً -تبعاً للاعتقاد الساذج والمتوارث عربياً- أكثر كفاءة ومهارة. – احجزي لي عند الدكتور جاك – انتظر دورك إذن – كم مريضاً يسبقني؟ – أربعة مرضى – ألا يمكن استثنائي بسبب الآلام المبرحة – لا.. انتظر دورك وانتظرت دوري، مرت ساعتان بالتمام والكمال، ساعتان استمعت وشاهدت فيهما على الهاتف كل فايلات الفيديو والأغاني، ساعتان وأنا أرى الدكتور جاك يخرج ويدخل مع مرضى لا علاقة لهم بالدور والانتظار، وكلما سألت الموظفة هزت رأسها وهي تقول من تحت لسانها: (انتظر)، ولأنني أعتبر الجلوس على المقعد مغامرة صعبة ستعقبها آلام مبرحة عند الوقوف، رضيت بأن أبقى واقفاً لساعتين، وحين جاء دوري تنفست الصعداء، إلا أن الدكتور جاك خرج من غرفته ثم نادى على مريضة قادمة للتو، لحظتها رفعت صوتي معترضاً: -Please doctor it’s my turn -What? أجابني بسؤال استنكاري ، فأعدت عليه الاعتراض، فلم يهتم، أخبرته بانتظاري لساعتين فلم يطرف له جفن، أخبرته بالآلام التي تقطع ظهري فلم يكترث، وسألته أن يلتزم بمبدأ الدور الذي التزمت به فنهرني وخطف بطاقة التأمين من يد الموظفة وأعادها لي. جررت قدمي إلى خارج المستشفى وأنا أشعر لأول مرة بأن إقامتي بالقرب منه ليس مبرراً للاطمئنان كما كنت أظن. بقي أن أقول إنه لم ينقذني من محنتي في نهاية الأمر سوى الدكتور ليث باقر، لم ينقذني من الألم والأسف سوى طبيب يستقبل مرضاه بابتسامة ولطف، ويهون عليهم المرض ويضع في قلوبهم اطمئناناً لا يحتاج معه إلى وصفة طبية مكتظة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت من المضادات والمسكنات والمقويات، فقط قليل من هذا وكثير من النصائح في كيفية الجلوس والنوم والنجاة من الانحناء على طاولة الكمبيوتر، وبعض جلسات العلاج الطبيعي. أعترف لكم بعد أن نجوت من آلام الظهر المفاجئة بأن المسافة بين طريقة مستر جاك والدكتور ليث في معاملة المرضى قد تبدو للبعض مسافة صغيرة لكنها بالنسبة لي حتى وإن بدت صغيرة فهي أشبه بتلك المسافة بين سطح السرير وملمس السجادة الحمراء بجوار السرير، مسافة شاسعة عشتها كحقيقة قاسية تفصل بين الحياة والعجز والوحدة وقلة الحيلة، مع الدكتور ليث لست في حاجة إلا لظهر واحد هو ظهرك المتعب والمرهق من الجلوس لساعات طويلة أمام شاشة الكمبيوتر، ومع الدكتور جاك أنت في حاجة حين تذهب إليه إلى (ظهرين)، الظهر الأول هو ظهرك المريض، أما الظهر الثاني فهو ظهر قوي يسندك ويدعمك ويفتح لك باب غرفة الدكتور جاك لأن شعاره الخفي هو: “لا علاج لمــن لا ظهر له”!