لم تكن ديانا هنا، لكن عينيها كانتا تطلان من بعيد، ولصوت ضحكتها نغمة من سحر، تسبق خيول العربة، تطير بجناحين، وتقول: هيا يا ابن قلبي وجسدي، تعال يا صغيري، يا أميري الذي تركته طفلاً حين تفتت عظامي بين إسمنت نفق وحديد عربة. ديانا لم تكن هنا، لكن روحها كانت توزع الورد والحلوى، كانت هنا ترى طفلها الشاب الأمير وهو يزهو، ويسأل نفسه في الحنين الذي لا يرده زمن أو نسيان: آه ليت أمي هنا
هل بكت ديانا في موتها فرحاً، وهي تتابع بروحها كيف كبر الابن الطفل الذي أنجبت، كيف أهدى أميرته خاتم الأم، لأن نصف محبته لعروسه يجيء من نصف الشبه بين الأم والعروس؟ هل تمنت لو أنها فارقت قبرها ليوم أو ساعات لتضم أميرها إلى صدرها، و تعتذر بلطف عن ملح دموعها الذي أفسد بذلة العرس؟ هل من أحد لم يتذكرها؟ أي أحد هذا الذي شاهد الحفل ولم يحفل بطغيان حضورها؟ أي أحد هذا في مشرق الأرض ومغربها لم يستسلم لعذوبة طيفها في التفاصيل والتشابه والاختلاف؟
ابتسمت كيت، فتذكرتُ ابتسامة ديانا، لوحت كيت بيدها، فاستعدتُ تلويحة من لا نسيان يغيبها، أمسكت كيت بالورد، وخطت خطواتها في أبيض فستانها، فوقعتُ من طولي في بستان نعومة ديانا، ابتهج الحضور وتراصوا في طوابير البهجة، ليكونوا شهود تاريخ وحدث وحكاية يرويها من حضر بزهو لأبناء وأحفاد سوف يسألون، فقلتُ في سري وأي زهو يوازي زهو من كانوا يوماً حضور زفاف ديانا، أي حكاية – يا أطفال ما قبل النوم- تشبه حكايتها؟
لم أكن أراقب كيت على شاشة التلفاز مفتوناً بجمالها، رغم أن لجمالها فتنة، لكن التي تلبستني وألبستني حالة من يقارن الوجه بالوجه، والعينين بالعينين، والألق بالألق، هي تلك الغائبة الحاضرة، تلك التي عبرت الحياة مثل طيف استثنائي، طيف يمسك بالقلب من شرايينه، ويملكه أبداً، ولا يشفع مع مثلها، أي ديانا، أن يكون سكنها في القلب بعقد إيجار مؤقت يسقطه النسيان حين تغيب. كنت أراقب كيت في عرسها، ناجياً من فتنة جمالها بفتنة جمال أشد، ذلك الذي عرفناه يوم كانت هنا أميرة القلوب قبل أن يختلط لحمها بعظامها في نفق الموت
كم سنة مرت اليوم على تلك اللحظة التي وقعت فيها عيوننا على حطام عربتها؟ لا أهمية للزمن تحديداً، لكننا الآن ونحن نجلس على تلة من الذكريات لا نستطيع أن نغلق صفحتها ونمضي، لقد فعلتها ديانا، جاءتنا يوماً على هذه الأرض، ورأيناها وأحببناها، وأعطيناها مجد الرمز، ومجد الاستثناء
لماذا كنتُ أبحثُ عن وجهها بين الحضور؟ لماذا كدتُ أنظر بجانبي أمام التلفاز لأسألها: تهنئتي يا أميرة بزفاف ابنك الأمير؟ هل لأن ديانا عصية على النفي، عصية على فعل العتمة؟ ولماذا كلما تابعت الأمير في زفافه، رقً قلبي إلى أم الأمير وتساءلت في هذيان: ماذا لو كانت هنا اليوم؟ ألم نكن نرى أميرة تكتمل جاذبيتها بفعل الزمن والتجربة؟ ألم نكن نرى ديانا متوجة بأنوثة ما بعد الأربعين؟ ألم نكن نرى فرحها العميق يسبح في محيط حزن عينيها العميق؟
حتماً لم تكن ديانا هنا، وربما كانت هنا روحاً حين جاء الزفاف، ودخل الأمير على أميرته، واهتزت كرة الأرض بعروسين تخطفتهما العيون، كأن كل من سمع ورأى كان يقرأ في كتب الأساطير عن تاريخ لا يتكرر بهاءه إلا في الحلم، وفي حكايات الأمهات والجدات قبل نوم العيون الصغيرة: كان يا ما كان، في سالف العصر والآوان، أميرة اسمها ديانا، تزوجت وأنجبت اثنين من الصبيان، وماتت حزينة، وبعد حزن موتها تزوج بكر بطنها من أميرة قالوا إنها تشبه أمه، ولما تجمهر الناس يوم الزفاف، ظلموا الأميرة العروس حين بحثوا في عينيها عن ست الحسن والجمال، عن ديانا يوم عرسها، عن ديانا يوم ابتسمت، ويوم اختصمت، ويوم قالت: أتبع قلبي. كان ياما كان أميرة وأمير وحكاية تروى على كل لسان
لو أن الموتى يبكون فرحاً، ربما بكت ديانا في قبرها، وارتوت عظامها من ماء عينيها، لحظة طبع الابن الأمير قبلته على شفتي عروسه. لو أن الموتى يملكون هواتف نقالة، ربما فتحت الأم ديانا خط هاتفها طوال ساعات الزفاف الملكي، لتسمع وترصد أصوات البهجة، وإيقاع الخيول الراقصة على الإسفلت، وربما تمنت وقتها لو أن أحداً على الطرف الآخر من الهاتف، طرف الحياة، فتح كاميرا هاتفه، وتواصل معها صوتاً وصورة، لترى الأم كما رأى ملايين البشر، كيف أن لخاتمها في إصبع العروس بريق الأميرة التي لا تشبه غيرها
لو أن الموتى يبكون فرحاً حين ترصد أرواحهم بهجة من يتعلقون بهم على الأرض، لكان يوم زفاف ويليام وكيت يوم ديانا ودموع فرحتها، ذلك أن مثلها يرق أمام الحدث، والمشهد، ويتخطفها الحنين إلى من تركت خلفها، وما أجمل ما تركت. هما طفلان شبا حتى صار لأحدهما أن يتزوج بمن أحب، فيقف الكون على أصابعه، وهي الأم الغائبة ربما تود لو أنها تستطيع أن تلملم فتات عظامها من نفق الموت لتصنع من حطامها جسداً تقف على قدميه وتنظر إلى هناك، وهناك تعنى هنا، وهنا تعنى الأرض وما فوقها، وديانا التي تبكي، هي الأم التي تتورد تحت التراب، وتبتسم
مقال ( كاريكاتيزما ) مجلة الصدى- 8 مايو 2011