في الصباح، وقبل أن يخرس أبداً، قال إنه لم يعد في حاجة إلى صوته، وإنه تعب من الكلام، تعب من الحديث عن الضائع والمفقود، وإن نبراته لم تعد تدل عليه، لم تعد تشير من وراء ستار إلى طيبته التي اشتهر بها يوم نطق لأول مرة، قال إن صوته لم يعد عميقاً، وصار أجوف كطبل، أضحى بلا صدى، حفظ الكلمات الجميلة كلها، وخاطب الناس بها، لكنها لا تجدي شيئاً، وكذب كما يكذب الناس فلم يسترح أبداً، قال إنه لم يعد يحب لهجته التي تطل بين كلامه فتؤنبه وتشد رقبته إلى حبل الذنب يوم هجرها مرغماً، الآن لم يعد يحبّها لأنه لم يستطع نسيانها فاستبدل النسيان العصي بالكراهية، قال إنه تخلى اليوم عن صوته، وسيمضي ما بقي له من عمر أخرس مكتوماً حتى في بكائه، حتى في وصاياه الأخيرة إذا أُتيح له أن يوصي أحداً، قال إن صوته مشروخ ومضلّل، تحسبه مرة صوت ناي ينفخ فيه عازف ضرير، وتحسبه مرة نواحاً فوق قبر، ومرة تظنه صوت ريح عاصفة تضرب نوافذ خشبية قديمة صدأت أقفالها، وكثيراً ما يحسبه السامعون استغاثة قادمة من جوف بئر مهجورة منذ ألف عام.
قال إنه تخلى عن صوته لأن لسانه تعب وسقف حلقه تعب، وشفتاه مثقلتان بما قاله من الألفاظ والألقاب وبما قاله ولم يحبه، وبما قاله ولم يقصده، وبما قاله ولم يشفع له، وبما قاله وأُدين به، وبما قاله وسُئل عنه، وبما قاله ولم يصل غايته، وبما قاله ولم ينقل عنه، وبما قاله وقيل غيره، وبما قاله وكذب فيه، وبما لم يقله ونُسب إليه.
قال إنه كره صوته لأنه لم يقل لمن يحبها ” أحبك” بما يكفي، ولم يدخر لها من اللغة ما لم يفسده لسانه، ولم يقل لطفله بعد حكاياته عن القرى والمدن وما بينهما من الحب والأسى.
قال إنه تخلى عن صوته لأن أحداً لم يعد يسمع، لأن أحداً لم يعد يرى غير الإساءة في الكلام، لأن أحداً لا يرى المحبة في النبرة والإجابة والسؤال، لأن أحداً لا يريد الحقيقة، ولأن الأقنعة لم تعد حكراً على الوجه، وأضحت ثوب اللسان، قال إنه كان ساذجاً، إذا أحب قال: ” أحببتُ “، وإذا كره قال ” كرهتُ ” ولم يعرف حيلة اللعب فوق الحبال، لم يكن رمادياً معلّقاً بين الكلام والكلام، كانت كلمته واحدة، محبته واحدة، غضبته واحدة، لكنه استيقظ على لغة من الزئبق، وأضحى بين خيارين: الصمت أو الكلام من الكلام في الكلام عن الكلام.
قال إنه لم يختر الصمت..
قال إنه لم يختر زئبق الكلام..
قال إنه لم يتخل عن صوته هذا الصباح، تركه على مدخل شارع جانبي في آخر أطراف المدينة، وأشار إلى عربة التاكسي، ووصف بيته للسائق بخطوط مائلة على غبار الزجاج.
خطوط مائلة على غبار الزجاج

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت