لا تحبي أبي الآن كثيراً، لا تحبيه على باب قبره، لا تعلّقي قلبك بقلبه، ولا تقولي له: خذني معك، لا تتركي البيت فيبقى بلا أم وأب، اصرخي كما تشائين، اصرخي حتى تتقطع أحبال صوتك، شقي ثيابك السوداء فوق جثمانه المسجى كنخلة فارعة، تعرفين يا أماه، كنت أود أن أقول له عن الحب الذي أحمله له في دمي، وهو الذي علمني أن الحب ضعف، وأن الرجولة في الصمت، ليتني أبكي لأنام، ليتني أبكي لأسرق لرئتي بعض الهواء، ليتني أبكي لأتحرر من وصاياه بأن البكاء للنساء، سأدخل غرفتي وأغلق الباب، سأبكي دون أن يسمع الجيران صوتي، دون أن يرى أصدقائي في عيني مجرى الدم والماء، سأجد طريقة ما لبكائه وحفظ وصاياه•
يا أماه..
لا تحبيه كثيراً، لا تقفزي خلفه في عتمة التراب والسؤال، نحتاجك أيتها الطيبة، نحتاجك أيتها الساذجة كأطفال البساتين، نحتاج المرأة التي لم يعرف أبونا أحداً غيرها، أنت يا أماه درة البيت بعده، فلا تحرقي دمك في البكاء على قبره..
ابتسمي في غيابه.. قولي خلف المؤذن: الله أكبر
قولي خلف المقرئ الضرير: (إنا لله وإنا إليه راجعون)
اقرئي الفاتحة مرتين
وأخبريه في صمته الأبدي، أخبريه في أحلامك دون أن تتقدمي إليه خطوة واحدة، إنه سيبقى سيد البيت، سيد قلوبنا المحطمة، سيد الأرض والذرة والقمح، سيد المحراث والصباحات الغارقة في الندى والحصاد، سيد صناديق النحل والعسل والسهر على الأبناء والأحفاد، سيد شجر الليمون والبرتقال، والبندقية المخبأة في جوف النخيل، سيد الكرم حين يزدحم على بابه الضيوف والغرباء.
أخبريه في صمته الأبدي أن عطره سيبقى دليل أرواحنا إلى البلدة والبيت، وصوته جرس الباب، وعينيه مصابيحنا حين تلفنا العتمة في الليل.
.. ..
يا أماه..
لا تحبي الرجل الذي نحبه، لأنك وحدك من يقتله الحب، ها هو يذهب إلى جوف الأرض التي كان يحرسها، لطالما كان يروي عن الأرض والشرف، فإذا جاءك في الحلم مبتسماً كعادته، لا تأخذي هداياه، لا تذهبي معه حين يحدثك عن الوحدة في الموت•
مات أبي يا أماه فلا تموتي خلفه
مات أبي يا أماه فلا تموتي خلفه
خذي نصيحتي، خذي نصيحة ابنك البكر:
اربطي قدميك قبل النوم في سريرك الصغير،
وحين يذكر لك اسمه، حين يمد إليك يده من قبره، قولي له: لا
.. ..
لمرة واحدة يا أماه
لمرة واحدة
لمرة واحدة قولي لأبي: لا