وقفتُ في موقف الطيران.. ولم أستطع
جهزتُ روحي وجسدي وقلتُ: أجرب أن أمضي بعيداً خلف الضوء واللون، وأتبع العطر حين يرج البدن، فما طارتْ الروح، وما ارتفع الجسد، قلتُ: ما الذي جرى؟ جناحاي ثقيلان، سقط الريش عنهما، لا يضربان الهواء كما كانا، ولا يصعدان بي إذا سرتْ في الدم فورة الوجد، أنا الطائر المسكون بالريح لا أستريح إذا تبدلتْ أحوالي وتسمّرتْ قدماي وسقط لساني.
وقفتُ في موقف الطيران.. ولم أستطع
كنتُ وحيداً في ركنٍ قصيّ، في مكان مسائي غارق بين العتمةِ والضوءِ، كنتُ كمن قتل أحبابه بيديه لينجو من محبتهم، فما ازداد إلا محنة ووحدة، كنتُ أتابع الطيور على أشكالها وهي تحلق خفيفةً، تستبدل أرواحها باللهب صاعدة في حرائق بهجتها، تطير في فضاءٍ بلا سقف، ترقص كما النار حين يعبرها الهواء، قلتُ: يا لخيبتي، انكسرتُ وثقلتْ أطرافي، كل مدينة تركتْ في القلب رسمها، كل امرأة وضعت أحمالها في الروح، كل أخٍ لم تلده أمي أورثني الفقد والهم، وجه التي أُنادى باسمها يوم البعث على وجهي، سمرة أبي قوتي وضعفي، أشقائي نار دمي، المحبة ثقيلة، جناحاي مقيدان كيف أتخفف من أثقالي؟ كيف أصبر على غصة وأستعيد خفتي؟ متى أتحرر مما صنعتْ يداي، مما رأتْ عيناي، ممن مشت إليهم خطاي؟ كيف أنفلت من جدارٍ بحجم الأرضِ.. وأطير.. أطير، خاب ظني، خاب ظن الوحيد، الضال، الغريب، الباكي، المطرودُ من نعمةِ الاطمئنان، المشدودُ كقوسٍ ووترٍ، المنتمي إلى قلقٍ، المأخوذُ بنظرة عينٍ ورائحة عطرٍ، المسلوب إرادته إذا رق وشف وتكلم عن الحب، المجنونُ بالتجربِة، الحائرُ خلف هذيانه.
أنا الخائبُ ظنه، ظننتُ أنني سأمضي بلا أثرٍ، وأنني سأصرخ بلا صدى، وأن رائحتي ستموت ورائي، وأن موتي نهايتي، لا هوية تدل عليّ إلا الفاتحة وما تيسر من السرد الممل حين يستعيد الآخرون بعضاً من سيرتي
وقفتُ في موقف الطيران.. ولم أستطع.
فما حيلتي؟ ما حيلتي وأنا الذي يخاطب نفسه:
الأرض من تحتك، ومن فوقك، ومن حولك
أنت الذي اخترتَ ورضيتَ، لم يجبركَ غيركَ على ما تضيق به
المحبة ثقيلةٌ، تخفف ممن تحب، طرتْ وقطعتْ الشرق والغرب، جربتْ الذهاب والإياب من غصنٍ إلى غصنٍ، تذوقتْ الحلو والمر، نمتْ على حريرٍ وشوكٍ، أحببت جنونكَ وفضولكَ، حزنك وبهجتكَ، أعطيتَ روحكَ لمن يستحق ومن لا يستحق، وما استرحت لغير طيرانكَ، أي منفذٍ تريد؟ أي منقذة تطلبُ، أي خفةٍ تهوى، وأنتَ•• أنتَ، كلما وقعتْ امرأة على جناحيكَ توجستَ وصرختَ خائفاً من ثقل الأرض.
خائب الظن
اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت