حنان عينيها

– أريد أن أتحدث معك

نظرت إليه قلقة وبدت عينيها لأول مرة غريبة عليه ،هكذا يعذبها بما يحفظه منها:

– نظرة عينيك غريبة

– لا تهتم ، قل لي عن ماذا تريد أن تتحدث؟

– أنت تعرفين كم أحبك، لا أريدك أن تغضبي مما سأقوله ، أشعر أن الوقت حان لنواجه مخاوفنا..

– قاطعته بحدة خوفها: تعذبني بمقدماتك، لا أحب التمهيد، إذا أردت أن تقتل أحداً فلا تخبره لينتظر طعنتك، لأنه سيموت ألف مرة قبل أن تريحه بالطعنة المباركة، أخبرني ولا تلف ولا تدور

– لماذا تعتقدين أنني سأقتلك بكلامي؟

– قل كلمتك

ابتلع ريقه الجاف، وعبرت دمه شاحنات ضخمة محملة بالحسرة، حسرته العظيمة حين ينغلق عليها فهمه، ويطل من عينيها الخوف

التقط حفنة هواء وأدخلها ببطء إلى رئتيه، نظر إلى قدميه كعادته، لا لتفقد لون حذائه، بل ليداري خوفه هو الآخر من اشتعال غضبها

– قال بهدوء كأنما كل حرائق قلبه انطفأت مرة واحدة: أشعر أنك تغيرت، أشعر أن هناك شيء في قلبك يدفعك بعيداً عني..

– اتسعت نظرة خوفها وخلت عيناها من الحنان الذي يدمنه، وقالت: أي تغيير؟ عن ماذا تتحدث؟ منذ قلت لي هذه الكلمات من قبل وأنا أبحث عن التغيير الذي تخافه، جعلتني أقف أمام كل مرايا البيت كامرأة تهذي، أسأل نفسي، ماذا كنت أفعل من قبل، وما الذي لا أفعله الآن؟

– اهدئي..

– أنا هادئة

– هل أكمل؟

– نعم..

– ابتسمي

– اسمعك

– ابتسمي

– سوف تجيء الابتسامة في وقتها

– أنا أحبك

– وأنا حبيبي، لكن أكمل كلامك

– أريد أن أري ابتسامتك التي أحبها

وابتسمت، لكنه لم يلتقط حنانها الذي يعرفه

– أريد ابتسامتي

وكأنه وضع اصبعه على زر صغير في روحها، قفزت كل مشاعر قلبها إلى بياض عينيها، تجسدت صورته فيهما، تجسدت صورة المرأة التي يعشق، بدا وكأن قلبها قد حل في هذا البياض الرائق، لا يعرف حتى اليوم كيف يمكن لابتسامة امرأة أن تعيد خلقه في اللحظة الواحدة ملايين المرات، وكيف لنظرة حنونة من امرأة أن تمنحه الفرح والانتشاء

ابتسم مقابل ابتسامتها، وشعر أن عاصفة غضبها الصغير قد استقرت كنسمة هواء على الطاولة بينهما

– آنا آسف

– لا تعتذر، فقط اعلم أنني لم أتغير، أنا كما عرفتني أول يوم، وكما أحببتني وكما أحبك، أنا أعرف ماذا تقصد، أعرف كيف ومتى خطر لك هذا الخاطر، منذ سألتك أن تكثر الاتصال بي، وأن تمنحني الشعور بحاجتك إلى..

– هذا حقك

– أنت تقول هذا فقط

– بل هو حقك ، لكنني أعبر عنه بطريقتي

– وأنا أفهم وأتراجع عن طلبي

– وأنا أصر عليه

عاد قلبها ثانية ليقفز فوق أضلاعها ويستقر في عينيها، وأشرقت ابتسامتها، وعاد هو إلى انتشائه واكتماله المطلق

– همس: أحبك

مدت يدها فوق فنجان قهوته ولمست يده ضاغطة على أصابعه

أحس كأنه لمس قلب هذا الكون وأسراره، كأن أصابعه لمست أعماق المياه الزرقاء في بحار الدنيا، كأنه لمس ثوب أمه واشتم رائحتها، كأن أباه عاد ليضمه ضمة الطفولة البعيدة

– يا ألله كم أحب هذه المرأة

قالها في سره وهو يخزن ما استطاع من فيض نظرتها الدافئة

– لا تضيقي بي

قالها بصوت، فردت في رقة وحب

– كيف أضيق بروحي

وانسحبت على إيقاع صوتها شياطينه، هجرت دمه، واطمئن إلى حين إلى حقيقة وجوده، عرف أنه لا يزال حتى هذه اللحظة يملك مبرر الحياة، داعبها بما تحب، شاكسها، ونال حظ يومه من البهجة، وحين عاد إلى بيته، أحس أنه أكثر اتساعاً مما هو عليه، لم يشأ أن يسهر، أو أن يفتح كتاباً أو أن يكتب شيئاً، كان لديه في قلبه ما يكفي لينام عميقاً كالأطفال.

– آلوووو

– آلوووو

– صح النوم حبيبي

– صباحك حبيبتي

ذلك كان صباحه التالي، ذلك صوتها الذي جعل الأمس خيطاً ممتداَ من السعادة لم تستطع ساعات اليوم أن تقطعه، ذلك صوتها الذي أهداه تاريخ يوم جديد يضاف إلى حياته التي بدأت أمام عينيها وعلى يديها، وتلونت بحنان عينيها بعد عمر من اليتم والشقاء.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

أنت إذا تكلم الناس .. أو صمتوا

المقالة التالية

أوهام جميلة

اخر المقالات من تأويل جميلة

في البدء كانت جميلة

في البدء كانت الكلمة، ربما، لكنني أظن أنه في البدء كانت النظرة، وكانت جميلة، كأن ترى

اعتذار الفراشة

أحط بين يديك يا جميلة، لأعتذر عن حماقة صاحبي، جناحاي معطلان، جناحاي ثقيلان بالذنب حتى ترضين،

صائد التفاصيل

  الجحيم في التفاصيل، ربما.. وأولئك الذين يعيشون بذاكرتهم البصرية قد يكونون في لحظة ما أتعس

ليست مجرد امرأة

– اكتب، قل شيئاً، أي شيء، أكمل روايتك اليتيمة، لا تترك رقبتي هكذا دون جوهرة تليق