وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت بأعجوبة من قسوة الصغر وغبار الرمل، تراه لأول مرة فلا تنكر عليه روحه المسكونة بالأحلام
اسمه نبيل
إنسان من لحم ودم، مربوط في ساقية الأهل والرغبات، مثله الملايين ممن تراهم هنا وهناك، وتخطئ ألف مرة لو أنك ظننت أنه جزء من زحام لا عمق فيه، تخطئ لو أنك صادفته وقسوت عليه بكلمة، وعاملته بإهمال كونه هامشياً.. وربما أنت الذي في عالمه هامشي ودخيل.. ومستفز
لا أرى الزحام في أي مكان، في أي مدينة إلا زحاماً بشرياً نابضاً بالحياة والحكايات، أرى الزحام قلوباً تتحرك، لهفة تمشي، وشروداً، وتأملاً، وحنيناً، وربما جوعاً أو فقراً وحاجة، لا نستطيع مهما حاولنا أن نقف موقف الحياد أن نفرغ الزحام من إنسانيته، لأنه موضوع إنساني، مادته البشر، وصورته حركة هؤلاء في اتجاهات مختلفة ومتناقضة، لكنها حركة داخل الحياة.
وسط الزحام، في يوم ما، ولصدفة ما، رأيت ( نبيل )، سائق تاكسي جاء قبل سنوات هارباً من قسوة الحياة في الجبال الشاهقة على الحدود الباكستانية الأفغانية، جاء ليبحث عن صورة أجمل وأسهل لحياة غير التي عرفها وأشقته في طفولته وشبابه، يجلس نبيل خلف مقود سيارة التاكسي عاشقاً لأبوظبي، يحدثك عن المدينة الأليفة بشغف، وحين يقارن بينها وبين مدن أخرى لا يحبها، يطمئن أن عجلات سيارته لا تستريح في دورانها إلا على أسفلت أبو ظبي.
نبيل خجول كالقرويين الذين تجرحهم الكلمات، وتطعنهم النظرات الماكرة، ولا يملكون الجرأة إلا في الصدق، أسأله عن ربحه الشهري، فيحمد الله بلهجة تكسرت فيها اللغة العربية وتماهت مخارج حروفها مع لكنته الغريبة، وعليك أن تفهم، وأن تخمن ما يقوله، ثم عليك أن تسايره إذا اختار أن يضع في الكاسيت شريطاً لموسيقى راقصة إلى حد الصخب تذكرك بفيلم هندي يرقص فيه البطل ويغني في المراعي الخضراء ويحتضن صديقته دون أن يجرؤ على تقبيلها احتراماً لشروط الرقابة، وإذا أظهرت امتعاضاً يسألك نبيل إذا كنت تفضل أن تسمع نانسي في شريطها الجديد، ولأنه يقولها بفرح، ويقولها بسذاجة أبناء الجبال، ويقولها فترى في عينيه عشقاً لما تفعله نانسي من دلع ودلال، فلا تستطيع أن ترفض له طلباً، تومئ برأسك موافقاً، ليس لكي تسمع النانسي فحسب، بل لترى كيف يحرص نبيل أن يرفع الصوت دقيقة بعد أخرى حتى تكاد العربة تتمايل رقصاً واهتزازاً مع اهتزازات نانسي المتخيلة.
عندما سألني نبيل ووافقت، وعندما ظل يرفع الصوت حتى كاد رأسي ينفجر، أقسمت بيني وبين نفسي أنه حتماً رأى نانسي في إحدى أغنياتها المصورة وأنه حين يسمع صوتها يستعيد في ذاكرته الصورة مع الدلال القادم صوتاً من الكاسيت.
يحمر وجه نبيل خجلاً حين يتحدث عن النساء، يقول إنه لم يتزوج لأن الفقر يسرق عمره، ولأن أباه العجوز في باكستان يأخذ كل ما يكسبه ليعالج أمراضه المزمنة، ولأن أعطال سيارة التاكسي تحرق أعصابه وماله، ولأن.. ولأن.. ولأن، لهذا يبقى نبيل مسكوناً بالأحلام، صغيرة هي أحلامه وسهلة وربما تافهة لمن ليسوا في حاله، لكنها جبال أخرى يسكنها هو، جبال شاهقة كلما تجاوز واحداً منها، وجد آخر يسد أمامه الطريق
يصرخ في غضب وهو يتفادى سيارة مسرعة متهماً سائقها بالجنون، ثم يخفض صوت الكاسيت لأول مرة ويسأل في حياء بالغ عن عطر لائق برجل عاشق، أسأله: لمن تريد العطر؟ فيزداد خجلاً وهو يتحدث عن امرأة أقلها ذات يوم من طرف المدينة إلى بيتها، فحادثته واطمأنت إليه ثم أعطته رقم هاتفها، وقابلته مرات عديدة، لم يكن لقاءه به سوى جولات مكوكية بالسيارة، هي الزبون الوحيد الذي لا يأخذ منه أجرة، يحلو له أن يقلها من أمام بيتها، ثم يقطع الشوارع بها في حكايات لا تنتهي، وبعد ساعة أو ساعتين يعيدها إلى مدخل البناية، لا شيء أكثر من هذا الشغف، ولا شيء أكثر من هذا التعلق الشاعري، ولأنه يحب أن يكون لائقاً بالحالة والحدث والمرأة الجميلة المطمئنة لروحه الطيبة، يحلم نبيل بعطر مختلف عن أقرانه، يسألني عن العطر وسعره، فأعده بالعطر هدية، وحين أغادر سيارته يهبط منها مؤكداً ألا أنسى أن أختار له عطراً يحرك قلب المرأة ويشعل حنينها، ثم يمضي باحثاً عن راكب آخر، عن صدفة أخرى في زحام المدينة
حلم نبيل أن يعيش حياته كما يحب.
حلم نبيل أن يدفع المرض عن أبيه.
حلم نبيل أن يطعم الأفواه الجائعة في أسرة بعيدة في الجبال.
حلم نبيل أن يضع يده في جيبه آخر الشهر فيجد من المال ما يأكل به.. ويشرب.
حلم نبيل أن يشتري عطراً باريسياً لائقاً بامرأة منحته يوماً الإحساس بإنسانيته لمجرد الحديث معه.
حلمٌ ” نبيلٌ” .. لرجلٍ في الزحام.. في الهامش الوسيع.. حولي وحولك.