وقع الفتى في الجيم، فتذكر جالا، وقع الفتي في الجحيم فتذكر جالا، وحين اشتعل بحرفه، قال وهل للجيم لون؟، ذلك ما كان يجهله القروي، لأن القرى لا تمنح العاشق غير حلم مغلق بأصفاد وسلاسل، ولما بلغ الفتى ما بلغ من الجمر، فتش في البعيد القصي، في الغامض والسريالي، أوقعه بيكاسو، وعذبه راسم الخشخاش، وصنع رينوار متاهته بين نساء حوريات، وتسلق شجر مونيه، لكن صاحب الدال، سلفادور المنقذ، كما اسمه، جره من يديه، أوقفه موقف الجيم، وقال: من أراد أن يكون دالياً فليتزوج جيماً.
إذاً هي الجيمية، هي جالا، أخذت دال دالي إلى دار جنون، فلم يكن قبلها كما كان بعدها، حررت روحه من سجن ومحبس، فنزل الدالي منزلة تخطف العين والوجد، ضرب الريشة على قماش وورق، فإذا الكائنات مشوهة ومقسمة وذائبة في الوقت والزمن، الجيم تبتسم، والدالي يجن، والفتى يعبر حقول القرى إلى مدن وقطارات، وكان كلما مر بمدينة تحسس روحه ليضبط عمامته، ويقول: ليتني دالاً أتبع جيماً.
قفز دالي من الوعي إلى تشويه الوعي، انصهر الوقت في لونه، وتفتت الساعات، وأخذت المشوهات تمام جمالها، ركضت الأحلام على قماشه، وحلت جالا محل كل امرأة، ذلك لأن ما تقوله جالا يكفي، وإذا حضرت غاب سواها، تقول له: يا دالي المجنون اهدأ، ضع فاصلاً بين الأرض واللوحة، كن ما تشاء حين ترسم، وكن ما يشاء الناس حين تنزل من عاج برجك إلى تراب أقدامهم، يا دالي المجنون أنا أحبك، أنت نقطة جيمي، أنا دونك حاء بلا ظل، فلا تأتي بالغرائب إلا قليلاً، استرح بين يدي، هل تريد البكاء؟ هل تريد اللعب بقطارات؟ هل تود أن أعلق لك الساعات الذائبة في سقف الغرفة؟، يا دالي المجنون أنا جيمك فلا يصعقك الطفل الذي لم تكنه، هل تضيق باسمك؟ آه أعرفُ، قلت لي مرة إنك أخذت اسمك من اسم شقيق مات قبلك بسنوات ثلاث، أعرف شياطين ظنونك، هل جننتُ لتظن أنك منسوخ ومكرر، وأن روحك ترتدي اسماً لم يكن لك، اهدأ يا صغيري العجوز، أنا جيمكَ، جئتكَ، فلا يأخذني منك غير الموت.
قالت جالا، وسمع دالي، وكان الفتى يشهقُ حين يقرأ ويرى، أي جيم هذه التي قفزت فوق ظهر حرف بري؟ وأي عبقري هذا الذي أمسك بالأحلام وقال للكون: هاهي لوحات أحلامكم، ها هي كوابيسي على قماش وورق، هل ترون، أنا سلفادور، استطيع أن أجيء بها، هذه التدويرات، هذه الانحناءات السائبة في الأشياء، كل مشوه يصبح بريشتي سحراً، توقفوا، لا تقولوا دالي السريالي، أنا السريالية، وغيري منسوب لاسمي. لا تقولوا مسه الجنون، أمجنون لأنني أمسك بعصا مذهبة كنبلاء الحقول؟ أمجنون لأن شاربي خيط من لهب أسود؟ أمجنون لأنني أفتتح معرضي ببذلة غوص، وأركب سيارة مملوءة بالخضار؟ أمجنون لأن ما أفعله لم يفعله أحد قبلي؟ هناك اختلاف وحيد بيني و بين الجنون، وهو أنى لست مجنوناً، ولا أتعاطي المخدر لأنني المخدر.
هل للفتى أن يسأل عن جيمك أيها الدالي؟
– يا لبؤسك أيها القروي إذا وقعت في جيم الجحيم لا جيم الجنة، أنا دالي، أنا الجيمي الذي ضاق عليه الكون واتسع له حرف، أنا ساكن الجيم لا البيوت، وعاشق الجيم لا اللغات، وسليل نسب يبدأ بحرف جالا وينتهي بحرف جالا، جاءتني بمواهب غير موهبتي، لأن الجيم إذا حلت بروح، تضاعف ما فيها من نعم. جاءتني فجاءني موج حتى شرفتي، تحدثتُ إلى الأحلام، ونامت على سريري ملايين الطيور المهاجرة، كل شيء كان يهاجر إلى فراشي وفرشاتي، كل غامض وغريب، كل مدهش يطرق الباب باكياً، خذنا أيها الدالي إلى بيت جيمك، هل رأيتم يوماً شموساً كئيبة تبتسم في سقف اللوحة؟ أنا أفعلها لأنني أحبُ جيماً، والجيم لا ترضى بالمكرر المنسوخ. آه أيها الفتي ذكرتني يوم رحلت جالا، يوم مات جسد كان صورتها، يومها انسحب الضوء من روحي، وغادرتني النعم، كنت قبل موتها أستيقظ بين رائحتها قائلاً: صباح الخير يا دالي العظيم، ماذا ستفعل اليوم أيها العبقري لتستحق هذه الجيم، نعم كنتُ أحبني وأزهو لأنني صاحب الجيم، وبعدها تناثرت ذرات روحي بقعاً من دماء وحسرات وحزن صامت، ما من قطعة قماش في يد فنان إلا وتخبيء آثار حزني بعد الجيم، هكذا عرفتُ نهايتي حين ذهبت جالا، حين لمت جميها، ووضعت نقطة حرفها بين يدها ومضت، لم أعد راغباً في شيء، اخترتُ أن أجلس بعيداً، زهدت في الغرائب والعبقرية، قذفت بالحياة على الجدار، وانتظرتُ طريقي إلى جالا.
مقال ( كاريكاتيزما ) – مجلة الصدى 15-5-2011