لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر لأقتنص ومضة ضوء عن الحياة التي جمعتنا يوماً تحت ظلال النخيل العالي في الجامعة. كان جرجس شكري يخطو خطواته الأولى في الحرم الجامعي، طالباً مسكوناً بالعفاريت، وكنا – ياسر الزيات وعبدالناصر هلال وكاتب هذه السطور -قد سبقناه بعامين تحت ضرورة السن، فوجد جرجس شكري في جماعة الشعر التي كنا نحمل شعلتها ملاذاً ورحابة، لا ليتخلص من عفاريته، بل ليمنحها فرصة نادرة لتتكاثر في روحه القلقة، وها هو اليوم يمسك بالشعلة فنراقبه فرحين. ولأننا بشكل أو بآخر، كنا شبه مجانين بما نقرأه ونجربه حياة وكتابة، تبع كل منا عفاريته إلى حيث قادته، والعفاريت في طبيعتها الشعرية لا تتشابه ولا تتناسخ إلا قليلاً، وهي إن وقعت في هذا الفخ إنما تقع من طولها، لأن صاحبها وحامل سرها لم يعطها ما يلزمها من الوهج والجنون. وفعل جرجس شكري فعلتها..
ربى عفاريت الشعر بعناية ودأب منحها وقته ودمه، وجرب أن يعطيها من روحه ما يجعلها تبدو مسكونة به لا مسكون بها، فهي التي وجدت فيه “عفرتة” مغايرة، وسخرية سوداء، وبساطة خادعة أشبه بسطح محيط في ليل مظلم، تظنه بساطاً رائقاً من الماء، فإذا دخلته -غير واع- التبس عليك كل شيء، وغرقت فيه دون أن تجد حيلة للخروج منه، وأظن على من يريد الاقتراب من محيطات جرجس شكري أن يحترس بما يكفي، أن يتزود أولاً بقدر كاف واحتياطي من الأوكسجين، وأن يمسك بيده اليمنى مصباح (ديجوين)، وألا يغامر اعتماداً على محبة القراءة لقتل أوقات الفراغ: (يقضي ليله في معالجة أفعال اعتل أولها أو حذف آخرها ويفضح من جاء مستتراً. جيرانه يشكون الضجيج الذي يملأ البيت حين يبدأ في تدريب أفعاله على تأدية المعنى) هذا الشاعر قادر على تدريبنا أيضاً لنتبع جنونه، وعفاريته التي نضجت الآن، وبعد أكثر من عشرين عاماً عندما رأيته يحملها بين عينيه وكلماته التي طالما أرهقت جسده النحيل بالسؤال والتجريب. لقد صنع نفسه، ودفع- حتماً- ضريبة قاسية ليصبح ما هو عليه الآن، وأنا لا أقف عادة أمام الاتهامات الجاهزة التي يدخرها البعض لأوقات الحسد والحقد، فنقول عن هذا إنه الفتى المدلل للمراكز الثقافية الأجنبية، ونقول عن ذاك إنه يروج لبضاعته بالجرأة والصدمات التي ترضي أصحاب المزاج “الآخر”، لقد هلكنا أو نكاد لأننا مسكونون دائماً بنظرية المؤامرة، الجميع يتآمرون علينا، ولو اكتشفوا بعد عام أو مائة عام أن هناك بشراً، أو مخلوقات على كوكب المريخ، لاعتقدنا جازمين أن نفراً من أهل المريخ يجهزون مائدة عامرة بالمؤامرات لأجل ثقافتنا وهويتنا، إنها بصورة أو أخرى، واقتباساً من عنوان مدهش لجرجس شكري، أقول إن كل هذا أشبه بـ “ضرورة المؤامرة في المسرحية”، لأن فكرة المؤامرة هي الأسهل، وهي الضرورة التي تنقذ الفاشلين أمام أنفسهم وأمام الآخرين من السؤال والتقييم• أقول هذا لا لأقدم مدخلاً لتبرئة جرجس شكري من تهمة زائفة، فهو أقدر مني على الرد وتفنيد اتهامات الحسد والحقد، لكنني هنا بحكم أشياء كثيرة -وبعيداً عن الصداقة- أقدم شهادة متواضعة عن شاعر حقيقي في زمن لا حقيقة فيه غير الأسى واليأس• قدم جرجس شكري أكثر من مجموعة شعرية منها “رجل طيب يكلم نفسهش، و”ضرورة الكلب في المسرحية” و”الأيدي عطلة رسمية”، وعلينا هنا أن نرى عناوينه، وأن نتوقف أمامها كما نتوقف أمام ومض غير متوقع، مدهش وقاس، لأن السخرية المبطنة حفنة دبابيس حادة في الحلق: (ومن ناحية أخرى أعرف أن الأشياء تسقط ولا تموت فأحياناً أطلق لحيتي وأقتني كلباً قاصداً شوارع بعينها حيث هناك في آخر الفراغ قهوتي، بيت أمي فرحة أقلامي الملونة وأنا أتثاءب أمام الكتب غالباً ما يحدث هذا حين أفقد أشيائي في صباح ربما مختلف وأحاول تغيير العالم) نجح جرجس شكري في أن يسلك طريقاً وعراً، وأن يأخذ مكانه في قطار قصيدة النثر، لم يقنع بالجلوس على مقعد ثابت ومريح، ولم تقبل عفاريته الجميلة أن يقطع تذكرة مكررة، جنون جرجس شكري هيأ له يوماً قبل أكثر من عشرين عاماً أن يقفز في القطار..هكذا دون أي تذاكر أو حقائب، وها هو الآن، بعد أن مارس الهروب كثيراً من محصل التذاكر العجوز، يثبت أن الذين وقفوا في الطابور يموتون بلا أثر، والذين اختاروا الاحتراق ليكونوا طاقة لعربة التجريب يصبحون كجرجس شكري “رجلاً طيباً يكلم نفسه”، فنحلم بأن يديم الله عليه هذيانه أبداً.