جامع الضحكات

 

 

 لم يذهب إلى طبيب نفسي لينام فوق الشيزلونج سارداً الأعراض التي يخفيها عن الناس من حوله، وقرر في لحظة أن يجلس مع نفسه ويحسم الأمر، لعب دور عاشق معذب بحبه وطبيب نفسي خبير في مهنته، وبدأ يعيش الحالتين كواقع حي، تساءل وهو يتقمص بجدية شخصية طبيب نفسي ضاق بمرضاه وهمومهم:

– ماذا بك؟

بدا حائراً وبعينين زائغتين وهو يجسد دور المريض المغلوب على أمره، قال وهو يخفي ضعفاً عظيماً:

– كل شيء في حياتي أصبح مرهوناً بضحكاتها، تبدلت أسماء الأماكن وتواريخ الأحداث، لم أعد الآن أذكر شيئاً إلا وارتبط يوماً، في ساعة ما، في لحظة ما، بضحكة من ضحكاتها

قاطعه الطبيب الذي يتقمصه:

– عفواً.. من هي؟

أجابه المريض الذي يسكنه:

– المرأة التي أحب، المرأة التي حولتني إلى جامع ضحكات

عقد الطبيب حاجبيه ومال برأسه على مريضه وهو يقاوم جهله بسؤال:

– جامع ضحكات.. لا أفهمك؟

وجدها المريض العاشق فرصة ليلقن الطبيب الذي في رأسه درساً:

– صرت جامع ضحكات، تغيرت أحوالي منذ أن تعلقت روحي بها، إذا سألتني عن أمر ما في حياتي، سألتك قبل ضحكاتها أم بعد ضحكاتها، الزمن هو زمن ضحكتها الأولى أو الثانية أو الألف، والتاريخ هو تاريخ ما ضحكت منه وعنه وعليه، أستطيع الآن – لو لديك وقت- أن أسرد عليك سنوات كاملة من الأحداث التي لا تكتمل إلا بربطها بضحكة أو ابتسامة لها، حتى الأماكن يا سيدي ضاعت أسماؤها وشوارعها وأخذت من بهجة ضحكاتها الاسم والعنوان، إذا أردت سوف آخذك معي إلى شوارع المدن التي عشت فيها معها لحظات الفرح والحب، سأخبرك: هنا ضحكت بنبرة رقيقة ناعمة كضحكة طفلة، وهنا ارتفعت نبرتها قليلاً فبدت شقاوة الحبيبة ودلالها، وهنا•• هنا تتابعت ضحكاتها كنغمات لحن ساحر، وهنا رأيت أول خيط ضوء من ابتسامتها على طرف شفتيها، وهنا لمعت عيناها بابتسامة كلما رأيتها ارتعشت كمن أصابته الحمى

– انتظر.. انتظر.. هل يضايقك ما أنت عليه؟

قالها الطبيب ورد عليه المريض المستغرق في هذيانه:

– لا يضايقني لكنني أشعر بالخوف

– أي خوف؟

– أقول لك الحق يا دكتور.. منذ شهور تطورت حالتي وأحسست بأنني على وشك الجنون، كنت قد رضيت بشغفي بضحكاتها التي تشرح القلب وتعيد لي طفولة وطمأنينة الحياة، لكنني الآن خائف مما أنا عليه، أصبحت أشعر جدياً بأن ضحكاتها ليست مجرد أصوات منغمة، بل كائنات رقيقة شفافة وحلوة، وكم فكرت في جمعها بين يدي لأتحدث إليها، وكلما ضحكت أو ابتسمت حبيبتي أمامي أو على الهاتف أحسست بأنها تهديني المزيد من هذه الكائنات الجميلة، هل سبق لك يا سيدي أن أحسست بأن الابتسامات تشعر بنا كما نشعر بها؟

ارتبك الطبيب، كان قد دخل في متاهة لم يجد لها تفسيراً علمياً مطابقاً، فركن إلى احتمالات أخرى قريبة من بعض الأمراض النفسية ليجد له مخرجاً من هذا العاشق الذي حل عليه اليوم دون موعد مسبق، تململ الطبيب في جلسته وألقى برأسه إلى الوراء قليلاً متخذاً هيئة العارف والحكيم وقال بثقة كاذبة:

– حالتك لا تستدعي كل هذا الخوف.. قل إنك تحبها وكفى

لم يقتنع العاشق، ولم يعط الطبيب فرصة النجاة والهرب من أزمته المستعصية على الفهم، رفع نصف جسده، وواجه الطبيب كمعلم خبير:

– أنا لا أشبّه ولا أبالغ، أنا أقول لك الحقيقة، ابتسامتها تتكلم معي، في أحيان كثيرة أسمعها وأراها تضحك ثم تواصل كلامها، فلا أنصت إليها جيداً لأنني وقتها أكون واقفاً مع ضحكتها ومسكوناً بها ومعلقاً من روحي بنغمتها، ثم إنني فقدت ذاكرتي بكل مكان لم تضحك فيه معي، هل تفهم يا سيدي معنى أن يكون تاريخي كله مرتبطاً بصوتها، ليس هذا فحسب بل إنني بالفعل، وهذه حقيقة، أكاد أطلب منها أن ترعى ابتساماتها في غيابي كأنهن شقيقات طيبات لها

– ماذا؟

– لن تصدقني، وهذا ما جاء بي إليك حتى لا تظن أنني فقدت عقلي وتهجرني

– هل أخبرتها بما قلته الآن؟

– قليلاً

– كيف؟

– قلت لها كما يقول الناس للناس: ابتسامتك جميلة ورقيقة ودافئة ورومانسية وحالمة وطيبة ورائقة وصافية و•• و••

– هذا جميل وحتماً هذا الثناء قد أرضاها

– هي لا ترضى بالذي اعتاد الناس أن يقولوه

– ماذا تريد أكثر؟

– تريد ما أريده، ألا أقول عنها ولها إلا ما لم يقله أحد في الحب من قبل

– كأنها تدفعك إلى غرابة القول

– تدفعني إلى براءة القول

– كيف؟

– تقول لي إن اللغة أفسدها العشاق الصغار، وتقول لي إن المحبين يتحدثون كما يتحدث أبطال الأفلام العاطفية، يتحدثون بما كتبه غيرهم وقيل ملايين المرات لملايين النساء، هل قرأت قصة عنترة وعبلة؟

وقع السؤال على رأس الطبيب كحجر ضخم من جبل عال، نظر إلى العاشق نظرة ضيق، وحين أراد الإجابة عن سؤاله تذكر أنه شاهد من قبل مرتين أو ثلاثاً فيلم (عنترة وعبلة)، بلع ريقه وأجاب:

– نعم قرأت قصتهما.. ماذا فيها؟

نزل العاشق من على الشيزلونج وجلس في المقعد المواجه للطبيب، وتحدث كمن يلقن طفلاً صغيراً أحد المعاني المغلقة عليه، قال بجدية وحسم:

– لعلك تذكر يا سيدي أن والد عبلة قد طلب من عنترة أن يحضر لها مهراً عظيماً من النوق العصافير، وأن هذه النوق لم تكن موجودة في محيطه، وكان عليه أن يعبر الصحارى المهلكة ليحضرها ويواجه الأهوال والمخاطر من أجل أن يفوز بحبيبته

– نعم.. نعم

– هي تفعل معي كما فعل والد عبلة مع عنترة

– تريد هلاكك؟

– لا.. لا.. أريدك يا سيدي أن تأخذ من القصة جانباً رمزياً توصلت إليه

– وما هو؟

– تريدني ألا أرضى بالسهل وأن أجتاز الصعب، وأن أقول لها: أحبك كما لم يقلها أحد لأحد من قبل، لذلك مازلت أبحث عن النوق العصافير في الوصف والتشبيه لأرضيها دون جدوى

لم يقل الطبيب شيئاً، لم يعلق بكلمة واحدة وذهب في صمته إلى عشرين عاماً مضت منذ أن امتهن الطب النفسي، مئات المرضى والمتمارضين والموهومين مروا عليه، لكنه لم يجلس يوماً أمام شخص محير كما يجلس الآن أمام هذا العاشق الغريب

دقائق ثقيلة من الصمت تحسر فيها الطبيب على حاله، واستعاد تفاصيل من حياته التي كان يظن أنها مثال حي على الحب والاستقرار، وها هو فجأة يشعر أمام هذا العاشق المجنون بأنه لم يعرف أبداً ذلك الحب الذي يتحدث عنه، أي ابتسامات هذه التي تتكلم؟ أي ضحكات يمكن أن تكون كائنات رقيقة وشفافة؟

عاد الطبيب ليواجه زائره بعلامة استفهام حائرة:

– يا أخي كأنك لم تشاهد امرأة تبتسم أو تضحك من قبل؟

– من قال لك ذلك؟ رأيت نساء جميلات إذا ضحكن صرن بلا جمال، ورأيت نساء لهن ضحكات باردة كأنها قطع من جبل ثلج، ورأيت ابتسامات حلوة لكنها مجرد ابتسامات حلوة، لكن ما أحدثك عنه لا علاقة له بالجمال أو الجاذبية، ابتسامة المرأة التي أحب لا تشبه غيرها، إنها قلب يبتسم، روح تبتسم، الطيبة التي تضيء، والأغنيات الجميلة لحظة يبدأ اللحن، إنها زرقة المياه العميقة الصافية، حنان الحبيبة والأم والأب والأخوات، وحين أسمع صوتها أجري كطفل في حقول خضراء ممتدة، كأنني أطارد فراشات ملونة، فأقع على وجهي، وأقف، وأقع على وجهي، وأقف، وقد لا تصدّقني يا سيدي إذا قلت لك إنني على استعداد لأن أجلس أمام ابتسامتها سنوات متصلة، فقط حتى لا تفوتني ابتسامة واحدة منها، كأنني جئت إلى هذه الحياة لأصبح مؤرّخاً وجامعاً لأحداث ووقائع ابتساماتها

جُن الطبيب أو كاد، وحين أراد أن يفلت من العاشق وهذيانه، ألقى عليه اقتراحاً ظن أنه الفصل والنهاية:

– أنصحك بشراء كاسيت صغير تسجل عليه ضحكاتها لتستريح من هذا العذاب، ويوماً بعد يوم ستكون لديك مكتبة صوتية تغنيك وتهدئ من حنينك

– عفواً.. أنت لم تفهمني بعد، يا سيدي الضحكات ليست مجرد أصوات، فكيف أسجل ضوء عينيها حين تضحك؟ كيف أسجل هذا البريق الذي يخطف القلب؟ كيف أسجل على الكاسيت لحظة تفتح شفتيها وتنساب ابتساماتها كمطر خفيف؟ كيف يقتنص الكاسيت أو كاميرا الفيديو وجه أمي في عينيها، وحنان إخوتي في عينيها، وصورة البيت والعائلة في عينيها؟ هذه أشياء تُحس ولا تُرى

وضع الطبيب ساقاً على ساق، وحدق في عيني العاشق وقال:

– عفواً لن أستطيع مساعدتك؟

– لماذا؟

– لا شيء.. لا شيء.. فقط اذهب الآن

– ماذا بك يا دكتور؟

– قلت لك لا شيء

– هل أنت متعب؟

– دعني الآن ولا تنس أن تستعيد ثمن الاستشارة من السكرتيرة

– لماذا؟

– لا أريدك أن تسأل، خذها واذهب ويكفي ما فعلته بي

– أنا.. ماذا فعلت، أعتذر إذا كنت قد أثقلت عليك بحكايتي

– ليتك أثقلت علي، بل دمرت سعادتي، قبل حكايتك كنت أظن أنني أعيش الحب الحقيقي، والآن خربت كل مشاعري وأفسدت سعادتي

– أنا آسف، أعتذر لك

وسحب العاشق نفسه ببطء من أمام الطبيب وهو في حيرة من أمره، وقبل أن يفتح الباب استدار وسأل سؤاله الأخير:

– هل تسمح لي يا سيدي

– ماذا؟

– أريد توصية خطية منك؟

– أية توصية؟

– توصية للجهات الرسمية بالموافقة على تغيير اسمي، لأن هذا سوف يريحني كثيراً ويمنع عني شبح الجنون

كظم الطبيب غيظه وسأل:

– وما الاسم الجديد الذي سوف ينقذك من الجنون؟

فتح العاشق الباب قليلاً ليستعد للهروب خوفاً من انفجار الطبيب غضباً، وقال كمن يلقي بقنبلة في وجهه:

– أريد أن يكون اسمي من الآن هو : جامع الضحكات

 

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

مخاطبات سيدة الجيم

المقالة التالية

ما قالته المستحيلة

اخر المقالات من تأويل جميلة

في البدء كانت جميلة

في البدء كانت الكلمة، ربما، لكنني أظن أنه في البدء كانت النظرة، وكانت جميلة، كأن ترى

اعتذار الفراشة

أحط بين يديك يا جميلة، لأعتذر عن حماقة صاحبي، جناحاي معطلان، جناحاي ثقيلان بالذنب حتى ترضين،

صائد التفاصيل

  الجحيم في التفاصيل، ربما.. وأولئك الذين يعيشون بذاكرتهم البصرية قد يكونون في لحظة ما أتعس

ليست مجرد امرأة

– اكتب، قل شيئاً، أي شيء، أكمل روايتك اليتيمة، لا تترك رقبتي هكذا دون جوهرة تليق