ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما كنا عليه في الوقت البعيد، إلى أرواحنا الضائعة، إلى روائح الأمكنة والناس، وعلى الرغم من تلك اللهفة إلى ما فات إلا أننا كثيراً ما نهرب، ونستغيث بالنسيان ونلوذ به، ونصفه بالنعمة، وهي نعمة القفز فوق زمن عشناه بالأمس ثم نريد اليوم أن نتنكر له، وأن نشطبه ونلغي تفاصيله دون رحمة ودون شفقة على جزء من حياتنا، النسيان هنا هو قطارنا الذي نستقله هاربين مما فعلناه وكنا سعداء به، لكن الماضي غالباً ما يطاردنا.. يطاردنا برائحة عطر قديم، بكلمة مشابهة ومخزنة في القلب، بملامح تأخذنا إلى وجه بعيد، بمكان، بصورة، بأغنية، بشرود ثقيل يشدنا إلى الخلف
نتذكر أول صداقة، أول حب، أول فشل، أول بكاء، أول قبلة، أول كل الأشياء والحالات، ربما ننتقي أحياناً ما نتذكره، وربما نترك أنفسنا طوعاً أمام تذكر الماضي بكل ما فيه من أخطاء وعثرات، وأحياناً كثيرة نحب أخطاءنا القديمة، وهكذا نظل بين حالتين: الحنين والنسيان، وبينهما ينقضي العمر، لأن كل لحظة من حياتنا هي لحظة سابقة، وحتى اللحظة الممتدة لساعة أو يوم، أقل أو أكثر، هي لحظة سابقة، يدخل زمنها في الماضي تدريجياً، دقيقة وراء دقيقة حتى تكتمل كماض تام، وإذا كنا في لحظة الحدث كارهين له، متحدثين بضيق عن معاناتنا تجاه ما نعيش وما نواجه إلا أن الماضي عادة ما يعطي الحدث الذي كنا نكرهه جمالاً خاصاً، فيه ما فيه من القسوة ومن الأسى ومن الذكريات المؤلمة، لكن – لأول مرة – تصبح له أيضاً حالة من الحنين، وقد لا نكون في حنينا هذا مربوطين إلى الحدث بقدر ما نكون مربوطين إلى أنفسنا في زمنه.
إننا هنا نصنع الماضي بكل جدية وإخلاص.
كل يوم نفعل الفعلة نفسها، نواصلها بولاء غريب، فتترحل أفراحنا وأحزاننا إلى الخلف، إلى علبة الذاكرة الضخمة، هذه العلبة التي تضم سنواتنا الفائتة، الأحبة الذين مضوا، والأهل البعيدين، والبراءة التي خسرناها، والدموع التي بكيناها مرارة وفقداً، ونموت في تذكر ماضينا بكل ما فيه، نموت خلف ما كنا فيه وعليه، لكننا لا نتوقف عن أداء دورنا في ضخ التفاصيل والأحداث إلى العلبة التي لا تمتلئ ولا تكتفي بما فيها، علبة الماضي، علبة الذاكرة
جميعنا بلا استثناء نجيد هذه المهنة، ونواصل أداءها بلا توقف حتى آخر لحظة في حياتنا، تلك اللحظة التي ستكون حتماً خاتمة لعملنا المخلص والدؤوب من أجل صناعة ماضينا، أياً كان هذا الماضي، جميلاً ومكثفاً وعظيماً، أو باهتاً ومكرراً وفاسداً، إننا في النهاية نسخة من ماضينا الذي عملنا عليه طوال عمرنا، وفي الوقت ذاته فإن كل شخص يتداخل ماضيه مع الآخر الذي يجاوره أو يرافقه أو حتى يعيش معه ذات اللحظة الزمنية المصنوعة من أجل ماض عام يشتغل عليه أصحاب القرارات المحركة لوجودنا الاجتماعي في أرض ما، إننا لا نؤدي دورنا في إيجاد الماضي بصورة فردية مهما بدا الأمر كذلك، فالقاتل الذي يدبر لجريمته يضع أيضاً خاتمة – ربما غير لائقة – لحياة شخص آخر، والعاشق الذي يطرق باب حبيبته ليطلب يدها، يؤدي مهمته كاملة في صناعة ماض قد يحتفل به بعد عام وقد يتذكره بمرارة إذا خرج منكسراً ومرفوضاً، وفي اللحظة نفسها سيكون هناك ماض أيضاً لذات الحدث في ذاكرة الحبيبة وأهلها وربما الجيران الذين علموا مصادفة بأمر إتمام الزواج أو فشله.
إننا بالفعل كما يقول الفيلسوف الروماني إميل سيوران: ( من الصباح حتى المساء، نصنع الماضي )، كل شيء نحلم به ويتحقق يذهب سريعاً إلى خانة فعل (كان)، الفعل الماضي الناقص الذي يجرنا إليه في كل دقيقة من أعمارنا، فهل تكون قيمتنا الحقيقية هي قيمة ماضينا؟
نعم، ماضينا البعيد أو القريب مصدر قيمتنا، كما يجب أن يكون مصدر تقييمنا، إننا مسؤولون عنه، صانعون له بمبدأ اختياري لا إجبار فيه، قد تتداخل الأسباب والظروف لتجعلنا رهن ماض لم نكن نريده، ولم نكن قادرين على أن نغيره في اللحظة الأولى أو الأخيرة لحدوثه، لكننا نصبح رهناً له، متبوعين به، وحاملين له دون أن نقدر على ممارسة فعل الإلغاء.
والخوف الحقيقي هو أن نصبح يوماً ضحايا لماضينا، ضحايا ما صنعته أيدينا، عندما نضطر إلى دفع ثمن غال من حاضرنا ومستقبلنا ضريبة لما فعلناه في زمن بعيد، الخوف هو أن يستيقظ الماضي ليس كحالة تذكر بل كغريم وعدو يطالب بالتعويض.. تعويض عما حسبناه اختفى وراء جدران الزمن والعمر، فإذا به يطل علينا وحشاً مرعباً لا نكاد نصدق حين نراه أمامنا أننا صنعنا هذا الخطر بأيدينا، لحظتها، لحظة مواجهة أخطائنا وخطايانا القديمة قد نقولها بأسى وخوف كما قالها بينجامين مارتن في فيلم (باتريوت): لطالما خشيت أن تعود خطاياي لمطاردتي.. والثمن يفوق طاقتي.
ثمن الخطايا

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت
كان القطار يزعق كقتيل ظامئ وهو يأكل المسافات هابطاً من الشمال إلى الجنوب، والشمس مختنقة بلا