تهريب عاطفي

(1)

جهز حقائبه في صمت وهو يقاوم الخوف الذي يتسلل إلى عظامه كطعنات صغيرة، لم يكن يريد السفر هذه المرة من دون أن يأخذها معه، لكن أين يخبئها؟ كيف يمر بها من أجهزة المطار؟ وهل يحالفه الحظ ويعبر بها من أمام عيون الحراس المتربصين بأية محاولات للتهريب؟ ماذا لو استوقفه حارس يقظ وأمر بتفتيشه؟ ما الذي سيقوله لحظتها حين يجدونها معه؟ سيكون عليه وقتها أن يواجه مصيره، وأن يدفع ضريبة جرأته وجنونه، ويخسر ما تبقى له من عمر في الندم والبكاء على ضياعه·· وفقدانها·

(2)

تردد للحظة··

هبت على جسده قشعريرة خوف لم يستطع دفعها هذه المرة بالصمت وادعاء القوة والذكاء، تخيل نفسه مقبوضاً عليه ومحاصراً في صالة المطار برجال الأمن، تخيل فضول المسافرين الذين سيجدون في مشهد القبض عليه فرصة لشغل الوقت والتسلية حتى إقلاع طائراتهم، مسح جبهته العريضة بكف يده، وأطلق تنهيدة حائرة، تنهيدة حارقة شفت صدره بخيوط متتابعة من الألم، ما الذي يفعله الآن؟ هل يترك أمر تهريبها لوقت آخر حين يكون أكثر جرأة ومراوغة؟ هل يعيد حساباته جيداً، ويبدل قراره الخطير ويلغي هذه المهمة السرية التي تهدده بالفضيحة والضياع؟

لم يكن هكذا من قبل، لم يكن ضعيفاً إلى هذا الحد أمام رغباته وعواطفه، كأنه أصبح مدمناً لا يستطيع الحياة من دون أن يحملها معه أينما ذهب، أحس بالمرارة تصعد في حلقه·· أحس بالانكسار يكبر داخله وهو يراقب نفسه في موقف لا يرضاه حتى لأعدائه، وها هو الآن على حافة السقوط، ها هو الآن يجهز روحه للمغامرة، ويمشي خلف قراره مغمض العينين·

ـ سأحملها معي، وإذا استطعتُ خداع رجال الأمن وأجهزة المطار الإلكترونية، فسوف أكون أكثر الناس ثراء وسعادة، ستكون ثروتي فرحاً دائماً، ولن أحتاج بعدها إلى شيء أو أحد·

دخل في حوارات هامسة مع نفسه وهو يستمد قوته من إصرار عجيب على المضي في خطة تهريبها، لم يجد في أعماقه سوى جنون واحد: أن يقوم بمهمته وينفذ خطته، وأن يخبئ ما يريد تهريبه في مكان سري، وليكن ما يكون·

(3)

فتح أكبر حقائبه وألقى نظرة فاحصة، نظرة بحث عن المكان الذي سيضعها فيه، هنا أم هناك؟ في هذه الزاوية أم في جيب الحقيبة السري؟ ولم يسترح للفكرة، لم يسترح لتركها وحيدة في الحقيبة وتعريضها للخطر في بطن الطائرة مع مئات الحقائب، وقرر أن تكون معه، أن ترافقه حتى لا يموت خوفاً عليها، فليس من المقبول أن يغامر بكل شيء من أجل الاحتفاظ بها وتهريبها، ثم يدعها هناك في مخزن الحقائب·· اطمأن إلى صواب فكرته الثانية، واستعد لمغادرة البيت في اتجاه المطار بعد أن خبأها في مكان سري لتكون قريبة منه في كل خطوة يخطوها·

(4)

في الطريق إلى المطار كان غارقاً في صمته، باحثاً عن تأويل لما يجري معه، كان يريد أن يعثر على تفسير واحد لهذا الجنون الذي يغلف حياته، ويطبع سلوكه بالهذيان أحياناً، ذلك الهذيان الذي يجعله في نظر الآخرين أقرب إلى البحارين التائهين الذين لا يعرفون طريقهم وسط العواصف، وكثيراً ما لمح في عيون أصدقائه ابتسامات سخرية مكتومة، وأسئلة من نوع: ما الذي يفعله هذا المجنون بنفسه؟ كيف يصدق أن سعادته المطلقة يمكن أن تأتيه من المغامرة والخطر؟ وكان يعرف في قرارة أعماقه أن أحداً لن يفهمه، وأن أحداً لن يلمس الحقيقة التي لمسها، وأن قلبه وحده هو الذي يحدد مصيره·· واتجاهه·· وقراره·

نظر إلى السائق من مقعده الخلفي، وتساءل: هل يدري هذا الرجل ما أحمله معي؟ هل يعلم ما أدبره في الخفاء؟ كانت الظنون تحاصره كجيش عظيم يركض في دمه وأعصابه، وكان خوفه يزداد كلما ظهر مبنى المطار من بين الأشجار، هز رأسه وأدار وجهه ليراقب السيارات حتى يخفف من توتره ونبضات قلبه المتسارعة·

(5)

تقدم إلى بوابة المطار، مشى خلف عربة الحقائب كمن يمشي خلف جنازة، صامتاً ومحترقاً من الداخل، رعشة يديه تكاد تفضحه، عيناه تدوران خوفاً وقلقاً، ما الذي فعلته بنفسك أيها الرجل؟ لم يعد هناك وقت أو فرصة للتراجع بعد أن وضع عامل المطار حقائبه في بطن جهاز الكشف الإلكتروني، يا الله·· هل ينجو بفعلته؟ هل ينجح في تهريبها أم سيقع بعد قليل في شر أعماله؟ تفحص الشرطي أوراقه ونظر في عينيه نظرة عابرة، لكن صاحبنا أحس بأنها نظرة شك وريبة، فكاد يقع من طوله، كتم أنفاسه قليلاً ليتحكم في نبرة صوته إذا لزمه الكلام، أشار الشرطي له أن يعبر داخل الجهاز ثانية لأن الصفارة تدل على أن هناك شيئاً غير طبيعي، تراجع صاحبنا خطوات ودخل ثانية من بوابة جهاز الكشف الإلكتروني، لكن الصفارة انطلقت مرة أخرى·

– سأله الشرطي: ماذا تحمل؟

ـ أجاب صاحبنا بصوت متقطع: لا·· لا شيء·

– اخلع الحذاء والحزام وضع كل ما تحمله هنا، واعبر الجهاز مرة ثالثة·

واستجاب صاحبنا لأمر الشرطي، الخطوات القليلة التي كان يخطوها ما بين الجهاز والشرطي كانت بالنسبة له ركضاً ثقيلاً في حفر من النار، أعاد عبوره في الجهاز فانطلقت الصفارة للمرة الثالثة، فلم يجد الشرطي مفراً من تفتيشه يدوياً، لحظتها تمنى صاحبنا ألا تلمس يد الشرطي قلبه وهو يتحسس ملابسه بحثاً عن الخبيئة، بحثاً عن السبب الذي يجعل الجهاز يصرخ مستغيثاً، أنهى الشرطي تفتيشه وطلب منه الذهاب إلى داخل المطار مطمئناً أن لا شيء ممنوعاً معه·

التنهيدة التي أطلقها صاحبنا بعد أن تحرر من الفزع والقلق كاد هواؤها الساخن يلفح وجوه المسافرين كريح عاصفة، قدماه الثقيلتان أخذتاه إلى ثلاثة أجهزة للكشف عن الممنوعات، وفي كل مرة يتكرر معه الموقف ذاته، وفي كل مرة ينجو بفعلته بعد أن يكون قد فقد القدرة أو كاد على التحمل والصبر·

وحين أنهى الإجراءات الأمنية والروتينية للسفر، وجد نفسه في مقعد بانتظار دخول الطائرة، فيما كان يحاول أن يسترد من الهواء كل ما فقده من طمأنينة، وبين الحين والآخر كان يتحسس قلبه ويبتسم·

(6)

على مقعده في الطائرة ركن إلى الصمت، حاول الرجل الذي يجلس بجواره أن يشده إلى حوار ما، لكن صاحبنا اكتفى بايماءات عابرة وقاطعة أنهت الأمر في ثوان، فاستراح للعزلة التي فرضها على حدود مقعده، كان قاب قوسين أو أدنى من النجاح في تهريبها، وكان طوال الرحلة مسكوناً بالفرح الذي يملأ قلبه، ساعات قليلة وستكون معه، ساعات قليلة وتتحقق سعادته على الأرض، ساعات قليلة وتغرد على أشجار يديه كل عصافير العالم عندما يلمس هذه الجوهرة الثمينة التي يحفظها في مكان سري، جوهرته التي بحث عنها سنوات العمر وانتظرها ظامئاً ولا يرضى لها بديلاً، قال لنفسه: سأحتفظ بها وأزينها وأدفع عنها السوء والضرر، سأباهي بها العالم، وأصرخ في الطرقات: من يملك ما أملك؟ من لديه ما لدي؟

انقضت ساعات الرحلة وهو غارق في منولوجه الداخلي، وحين جاء صوت قائد الطائرة معلناً عن بدء الهبوط، ربط الحزام حول خصره، وعاد إليه القلق من جديد، قلق المطار وأجهزته وحرّاسه·· قلق ثان لو انتهى بخير لأصبح لحياته عنوان جديد·· وجميل·

(7)

خطوة·· خطوة···

قلق يتبعه قلق··

من بوابة إلى أخرى، من إجراء إلى آخر أقل تشدداً مما تعرض له في المطار الأول، نصف ساعة كأنها نصف عمره، وفي كل حيرة وفزع كان يهمس لنفسه: “اصبر لم يتبق إلا القليل”، وانتهى القليل ووجد نفسه أمام حقائبه، وضعها على العربة ومضى واثق الخطى خارج المطار، ولم يكن لديه الوقت أو القدرة على الاختيار بين تاكسي وآخر، ألقى بجسده داخل عربة التاكسي وهو يخفي ابتسامة بعرض المدينة وطولها، كان الفرح بنجاحه في تهريبها يهز روحه كنغمات لحن خرافي·

– إلى أين؟

– إلى أي مكان··

قال لسائق التاكسي وهو يجس نبضات قلبه المتسارعة، ويحمد الله أن أحداً من رجال الأمن لم يكتشف حقيقته، ولم ينظر في عينيه بعمق، ولو فعل أحدهم ذلك لرأى ما يقوم بتهريبه، نظرة واحــــدة عميقة من شرطي ذكي إلى عينيه كانت كافية ليبصر الخبيئــة الثمينــة فيهما، ولو كان هناك شرطي أكثر ذكاء لطلب منه الخضوع لفحص الــــدم، ولحظتهـــا لم يكن لينجو·· لم يكن ليجد طريقة لإخفائهــــا، لأن حبيبتــــه التي قرر تهريبها معــه كانت في مكان ســــري، في مكــان لا يشعر به ســـواه، كانت حبيبته جميلة في دمه·

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

كمال عبد الحميد ضيف برنامج دنيا

المقالة التالية

نم يا غالي.. نوم العوافي

اخر المقالات من تأويل جميلة

في البدء كانت جميلة

في البدء كانت الكلمة، ربما، لكنني أظن أنه في البدء كانت النظرة، وكانت جميلة، كأن ترى

اعتذار الفراشة

أحط بين يديك يا جميلة، لأعتذر عن حماقة صاحبي، جناحاي معطلان، جناحاي ثقيلان بالذنب حتى ترضين،

صائد التفاصيل

  الجحيم في التفاصيل، ربما.. وأولئك الذين يعيشون بذاكرتهم البصرية قد يكونون في لحظة ما أتعس

ليست مجرد امرأة

– اكتب، قل شيئاً، أي شيء، أكمل روايتك اليتيمة، لا تترك رقبتي هكذا دون جوهرة تليق