أنتَ.. يا أنا، يا طفلي المحاصر البعيد في غزة، قل «بابا» تحت القصف لأتعلم منك النصر والحب، قل «بابا»، واضرب بصوتك في روحي لتعيدني إلى طفولتك الغائبة عن عينيّ. قل «بابا» لأبكي أبوتي التي خسرتها يوم لمستُ يدكَ في زحام المطار، وأنتَ تغادر شجرة أصابعي. قلها وأنتَ تبحث عن ملجأ من رصاص الشياطين، وأنت ناعسٌ في صحوة الخوف لأنك طفلٌ لا يفهم لعنة الحرب. قل يا ناصر لأبيكَ إن الليل خوف، والنافذة خوف، والنوم ربما يجيء بكل الخوف، والبناية المقابلة صارت رماداً بلمسة إصبع من شيطان
قل يا ناصر «بابا» لأفسد وحدتي بالندم، وأحصي الكوابيس على سريري، وأكذب على من يسألني عنكَ، وأقول «هو في بيت آمن»، وهل لكَ سوى أمان قلبي الذي يموتُ خوفاً عليكَ. ما الذي تراه الآن وأنتَ تسمع للموت صوتاً غير ما سمعته في لعبتك؟ تعرف اليوم أن الدم على الأرض غير الدم في «البلاي ستيشن»، فما الذي تضمه إلى صدرك الصغير غير وسادة لا رسم فيها؟ وهل ترى حسرة أبيكَ الذي لا يراك إلا موقوفاً أمام جيش الظلام؟
قل يا ناصرُ «بابا» على الهاتف، وأنت تشرحُ كيف هربتَ من البيتِ إلى بيتٍ ستهربُ منه إلى بيوتٍ تهربُ مثلكَ إلى أرضٍ لا يموت فيها الطفلُ ليحيا باعة الكلام. قلها وأنت تضمُّ لعبتكَ، وأنت تسأل في رجفة أحلامك: منْ يصنعُ القنبلة؟ ولماذا يقتلُ الناسُ الناسَ؟
تكلم يا صغيري، قل لأبيكَ كيف كرهتَ الكلام، وهربتَ إلى الصمتِ، أخبرني كيف سرقت الطائرات القاتلة صوتكَ، فقررتَ أن تهجر اللغو، وتهجر التفسير، وتتأمل الموت مثل حكيمٍ اختبر اللعنات والحياة؟ أي ذنبٍ أحمله على كتفيّ وأمضي؟ أي رصاصةٍ تتبعني من ليلٍ إلى ليلٍ، وأنا أتابعُ الخبرَ العاجلِ، وأقولُ: أيها الموتُ خُذ شجرة الأب اليابسة، ودع العمر للأخضر الصغير
قلها يا ناصرُ: أنا خائفٌ، فليس عيباً أن يخاف الأطفال، ليس عاراً أن تمسك بيد أمك، وتسألها أن تكون الجدار بينك وبين الموت، دع خوفكَ يكمل طفولتكَ، دع سؤالكَ يفضح العدو الذي يرفع رايته على الجثث الصغيرة، تعلم الآن كيف تقفز الجبل، وتمسكُ برأس الأفعى، تعلم ألا تكون الحمل بين الذئاب، اكبر في خوفك حتى يغادرك الخوف، حتى تقولَ: أيها العدو كرهتُ اسمك ورسمك، وغادرتُ طفولتي يوم أجبرتني أن أغادر غرفتي ولعبتي، وأنا أحتمي بيد الله في يد أمي، ورحمة الله في وجه أمي
أنتَ.. يا أنا، يا طفلي المحاصر البعيد، يا من تكبر سنة بعد سنة، من دون أن أقلم أظافرك، من دون أن أرى كيف تعبر الشارع إلى البيت، وكيف تختار الحلوى، وعلى أي جانب تنام، صوتك على الهاتف أغنية.. وأنا أخرسُ، غنِّها ثانية، قلها: «بابا»، نظف رئتي من الهواء القديم، اضحك في حصارك، اقترح اسمك حلماً وانتصاراً، واسألني في كل مرة عن هداياك، وأنا أسألك: ناصر.. هل تريد ثياباً جديدة؟ أعرفُ ستقول في خجلٍ كملاكٍ: «أريد طائرة.. وسفينة.. وسيارة»، كأنك يا صغيري البعيد تريد أجنحة، وتحلم بكتفيّ
مقال تأويل – مجلة الصدى – العدد 800 – 2014