البندار..الأرض هنا فاتحة الفرح والتعب، مبتدأ السؤال والحيرة، شغف الطفولة بكتاب تحت جذع نخلةٍ مائلةٍ على جدار بيتٍ من الطين، صوتُ الكلابِ الحارسة التي تبعد الغرباء بالنباح، الحقول المفروشة بالأخضر، الشجر المروي بعرق المتعبين بالرزق وكثرة العيال، عجوز يهز ساقيه الضامرتين على حمارٍ أعرج، امرأة ملتفة في سواد الملاءة تقطع الطريق في حذر، والبقرتان الوحيدتان في حظائر الماشية تنامان بلا ضغينة إذا جف الضرع في موسم الجفاف، المحبة الطاغية في احتضان الأم، ورهبة الخوف أمام شارب الأب وعصاه، خطوات الصغير تحت سقف شتاء قارس حين ترتجف يداه قاصداً مقعده الخشبي في مدرسة تقف شاهدة على مدخل الطريق، كسرة الخبز المحشوّة بالسمن والعسل، ونصيحة الأم المعلقة في الرقبة “إياك والقطار”، وحين يجيء صوته من بعيد كثعبان طويل يشق الصمت والغبار، يراقبه الصغير حالماً بالمدن البعيدة، بالأضواء التي تتلألأ، والسينما التي يُقبّل فيها الرجل امرأة بيضاء كوجه القشدة.
االبندار..
أقلامٌ ملونةٌ وأوراقٌ مبعثرةٌ وطاولةٌ لا لون لها، كراسات هوامشها مسكونة بشخبطات الهوى البكر، اسم أغنية للمطرب الذي أكلت البلهارسيا كبده، عنوان كتابٍ عن مغامرات بوليسية لن يشتريه الأب إلا حين ينتصف العام، وتغلق المدرسة أبوابها، ويفترش الصغير الأرض بالحكايات، ليل الزائرين ورائحة الشاي الذي يدور على الرجال المدثرين بالعباءات في حضرة الجدّ حين يحكم بين الناس بالعدل.
يذهب القطار ويعود الطفل إلى النخلة المائلة راسماً على التراب شكل ما رأى وما تخيل وما تمنى أن تصله خطاه.
البندار..
طلقة الثأر تدوي فوق الرؤوس، فيهرب القتلة إلى حقول القصب والذرة، ويتربص المصابون بالعار بمن يشفي غليلهم إلى الدم، تُغْلق الأبواب على الأطفال والنساء، وتقف الحياة كجثة بلا أهل، ويجول الجنود المدججون بالسلاح تحت جنح الظلام باحثين عن الجناة، وتقطع الصمت الثقيل صرخات نساء فقدن عزيزاً، وعيونهن مفتوحة بالخوف على ما سوف يجيء من الموت والفقد، طرقات خاوية من الناس إلا عجائز لا تطلبهم الرصاصات المجهزة بالحقد والغل، رصاصات لا تطلب إلا زينة الشباب ليحترق القلب مرارة، وليصبح الثأر حارقاً وموجعاً، وباباً موارباً على المصائب ليروي القتيل ظمأه.
البندار..
جنة الحب والغفران، ملاذ الضال حين يرتج القلب ويكبر السؤال، سرير الراحة والنوم على صوت الحواديت، اطمئنان المرتجف لحظة يملأ الأب البيت بالخير والبركة، آخر باب تقصده الخطى الغائبة، وآخر أرض يهبط على أشجارها طائر مسكون بالشتات.