الموجة التي تكلمت بلسان امرأة

(1)

ابتسمت له موظفة الفندق الابتسامة ذاتها التي تتدرب عليها كل صباح أمام المرآة قبل أن تقف وقفتها هذه كآلة بشرية جاهزة للضحك في أي لحظة تقع فيها عيناها على وجه نزيل جديد أو قديم ، حاول صاحبنا أن يعثر في عينيها على أثر لروحها، عن شيء يدل عليها بعيداً عن هذه الابتسامة الوظيفية الزائفة، مدت يدها الصغيرة بمفتاح الغرفة بعد أن أنهت الإجراءات خلال عشر ابتسامات تقريباً، ثم نصف ابتسامة وهي تتمنى له إقامة سعيدة

 

(2)

فتح الغرفة وألقى بحقيبته الصغيرة خلف الباب، تلك عادته إذا نزل فندقاً، لا يهتم إلا بتفقد الشرفة والمدى الذي تطل عليه، وحين رأى البحر أمامه ابتسم له كصديق طفولة لم يره منذ زمن، وليومين كاملين لم يغادر غرفته، يتابع البحر من بعيد، مسكوناً به وخائفاً منه، يخاطبه بصمت وهيبة، ينظر إلى زرقته نهاراً ويغلق عليه الستارة ليلاً، كأنما يشد عليه غطاء النوم ملقياً أمنية الأحلام السعيدة على كائناته في الأعماق البعيدة

(3)

كان يراقب الموج كمن يراقب عرضاً ساحراً لراقصات باليه، أجسادهن لينة كأن لا عظام فيها، موجة خلف موجة وصوت سيد درويش في الذاكرة (الموجة بتجري ورا الموجة عايز تطولها)، امتداد هائل من زرقة المياه، عمق مخيف ونداءات غامضة، وهو في الشرفة وحيد ينظر إلى السابحين ويهمس: البحار مغلوبة على أمرها لأنها لا تملك اختيار سابحيها؟

استقر بصره ذات لحظة على موجة تذهب وتجيء، وترفع رأسها الأزرق الممزوج بالبياض الرائق أمام شرفته مباشرة، تابعها مرة بعد مرة، دقيقة وراء دقيقة، يذهب ببصره معها إلى حيث تلامس الشاطئ هادئة ثم تعود في انثناءات راقصة للوراء، طبقة من الماء وراء أخرى، حتى تعود لترفع غرتها الزرقاء المخضبة بالبياض، هكذا بقي متصلباً أمام العرض البحري الحي، وكلما حاول أن يشيح ببصره بعيداً شدته الموجة الراقصة أمام شرفته، وكاد من فرط توحده بالمشهد أن يظن أنه كتلة هو الآخر من الماء، اتخذ هيئة جسد آدمي، وأن روحه هناك مع هذه الموجة التي تغازله كامرأة فاتنة

(4 )

– ما اسمك أيتها الموجة؟

سأل وهو ينظر إليها بقلبه، وهو يحاول أن يكون في شفافية أعماقها، سأل وهو يغمض عينيه أحياناً ليبصرها في روحه وبروحه، ليكونها ويتخذ من صفاتها صفات له

– ما اسمك أيتها الموجة؟

ارتعش كـأنه سقط في قلب جبل جليد حين أبصر الموجة تنفصل عن جسد البحر الكبير والهادر، وتتجه إليه، لم يكن يتوقع في تأمله العميق أن تشعر به هذه الكتلة المائية الصافية، وتصطفيه كما اصطفاها•

– تعالي أيتها الموجة، اصعدي إلى يدي

خاطبها بود فارتفعت الموجة عن الأرض واهتزت زرقتها قليلاً وهي تصعد في الهواء حتى وقفت أمام سور الشرفة فلمس سطحها بأطراف أصابعه كأنه يتحسس روحه الضائعة، وفي انفعال مؤثر وخاطف تجمعت الدموع في عينيه، داخله كان يفور بركان من المشاعر، شيء يتحقق في قلبه، أي موجة هذه؟ تساءل وهو يقاوم ارتجافة بدنه، وحين أخرج تنهيدته المكتومة سقطت دمعة واحدة من عينه اليمنى على سطح الموجة فصنعت بضع دوائر متناهية الصغر، قالت له الموجة بحزن وهي تأخذ دمعته إلى أعماقها:

– ما بك أيها الوحيد؟ ما بك تراقبني من بعيد وتهز روحي بروحك؟ قل لي، أنا التي مشيت إليك كل هذه الأميال، قطعت الرمال والمحيطات حتى أصل إليك، أنا الموجة التي تنشد، فقل للموجة التي تنشد ما الذي يبكيك؟

– استجمع قواه، واستمد عزيمة بحار عظيم أمام موجة تقف أمام شرفته، وألقى برجائه: خذيني إلى آخر الكون، اعبري بي الليل والريح، وهناك، هناك في قلب محيط بعيد، توقفي وأنزليني في عاصفة إلى الزرقة العميقة

– تحركت كتلة الماء الصافية إلى الأمام ولامست وجهه في حركة سريعة، ثم عادت إلى وقفتها الأولى وهي تهمس إليه: بل سأحملك إلى الفرح، سآخذك إلى بحار لم ترها وشواطئ لم تنزل إليها، سأطير بك من مياه إلى مياه، فترصد بعينيك ملايين الموجات والأشجار والجبال، ستلوح للسفن بدهشة طفل، وتسبح وأنا حارستك من الغرق، سنستريح حيناً من الوقت لحظة يهدنا التعب، وستروي لي عن الذي لم تقله لأحد، وسأروي لك عن تاريخي العميق، سأمسك بيديك حين تخاف وتمسك بيدي حين يجرني البحر بعيداً عنك، أنا الموجة التي انفصلت عن جسد لا تنتمي إليه، واختارت بحرك الذي فيه أضحك، وفيه أصفو، وفيه تكبر طفولة قلبي، أنا قبطانك في كل المياه الهادرة، أنا ابنة البحر وأنت ابن اليابسة، فخذ من مائي لتروى عطشك، ودعني أسند رأسي على شاطئ كتفيك

– ستتبدلين كما يتبدل الليل والنهار، فلا أحد يعبر النهر مرتين

– سأكبر تحت عينيك، وأبدل زينتي من لون إلى لون، وأتوقع ما تحب وأكون ما تحبه، نعم.. أنا ابنة البحار التي تجري من حولك، أنا ابنة المياه التي لا تستقر على حال، فلا تأخذني بذنب ما كنت فيه، أنا الآن موجة تعبت من السفر في البلاد الغريبة، وتعبت من الشواطئ البعيدة، وتعبت من ليل الرياح والعواصف، وتعبت من السفن العابرة والغارقة، أنا الذي جئتك فلا تردني إلى بحر الظلمات

– أنا الذي جئتك أولاً فكيف أردك، أنا الذي دونك أغرق في بحر الظلمات، أنا الذي اخترتك من بين ملايين الموجات التي رأيتها وتخيلتها وحلمت بها، ولو أن بحار الدنيا اجتمعت أمام شرفتي لأصطفي من مياهها موجة واحدة، ما اخترت سواك

– داعبته الموجة باهتزازة رشيقة من جسدها الصافي، وقالت في دلال: ألا تخاف أن أغرقك؟

– رد لها الدعابة بجدية عاشق: الغرق معك حياة

– رسمت الموجة على سطحها شكل ابتسامة ساحرة وهي تستدرجه بسؤال: لماذا تحبني كل هذا الحب؟ أحياناً لا أصدق أنني موجتك التي تقصد، وإن كنت أحلم ألا تكون لأحد غير قلبي

– لن أكون لأحد غير قلبك

(5)

خمس ساعات انقضت منذ وقفت الموجة أمام الشرفة، منذ تكلمت بلسان امرأة، منذ أطفأت حرائق الرجل الوحيد، كان يحدثها بقلق وهو ينظر إلى الشمس قبيل غروبها، لأنه يعرف أن الموجة ستعود حتماً إلى بحرها قبل عتمة الليل، حاول أن يكتم حيرته أمامها، كانت أعماقه تهدر بالأسئلة والخوف: هل ستجيئه هذه الموجة غداً؟ هل ستعود إليه بالحب ذاته؟ هل ستركن إلى البحر الذي كانت فيه أم ستقفز إلى يديه؟

– هل ستعودين؟

– لا أستطيع إلا أن أعود، وإذا

– لا أحب أن تكون بيننا إذا

– أردت أن أضعك أمام احتمال ولو ضعيفاً

– احتمال غيابك يوازي جحيم فقدك

– أنت مجنون

– أنا أحبك يا موجتي الرقيقة

– وأنا أحبك أكثر

– لا.. حبي أكثر، وحبك أجمل

ضحكت الموجة فتغيرت هيئتها مع دورانها حول نفسها وارتفاع رأسها، وبدت وكأنها بحر مكتمل بذاته، اطمأن إلى إحساسها العميق بتحققها معه، قال لنفسه ربما لن تكون بعد اليوم في حاجة لأن تعود إلى البحر، ربما تنام هنا بين يديه ليسهر على أحلامها، ويرعى صفاءها الجميل

– سألها وهو يحسب ما تبقى من وقت بينهما: هل ستعودين؟

– …..

– قتله صمتها هذه المرة، استدارت الموجة لترقب ضوء الشمس، ثم واجهته بحزن لم يقدر على احتمال رؤيته في قلبها، قالت له:

– ابتهج، ولا تعكر قلبك بالخوف

– أين ذهبت وعودك؟

– أنا على وعودي كلها، لكنني لا أريد أن تظن بي الخذلان إذا أخذني البحر إلى أعماقه وفقدت طريقي إليك، لا أريد أن تظن بي الظنون لو أنني فقدت ضوء عيني ولم أتبع السفن التي تصل إليك، فلا تحبني كل هذا الحب، لا تغلق باب الحياة على اسمي، اتركه موارباً ولو قليلاً لتنجو بنفسك

– العمر الذي لن تكوني فيه معي سأنفقه خلفك في كل بحار الدنيا، سأتفقد الأمواج هنا وهناك، وأستوقف كل مياه العالم كمحقق محترف لأسألها عنك، سأتصفح أعماق المحيطات، وأواجه القراصنة والحيتان، وأقاتل الخوف في الجزر المجهولة، سأتبع رائحتك وزرقة مياهك، وأستدل عليك بقلبي

– وأنا سأعود إليك، سأكتب اسمك على رمل كل شاطئ، وأنتظر ابتسامتك في كل بحر أمر به، فلا تصدقني حين أصرخ وأبكي خوفاً عليك من يأسي

(6)

نظرت الموجة في قلقها إلى قرص الشمس، لم يبق سوى دقيقتين ويحل الظلام، وعليها أن تقطع المسافة ما بين الشرفة والبحر في دقيقة أوأكثر قليلاً، اقتربت لتودع الذي لا يريد وداعها، كأنه طفل يتشبث بثياب أمه خائفاً وباكياً من غيابها الذي سيجيء بعد قليل.

قالت له وهي تلمس أصابعه برقة: لا تعاقبني إذا تأخرت، أنت بحري الذي لا أستبدله ببحار الدنيا، فلا تظلم على موجتك التي تحبك.

– إذا كنت أنا بحرك، فكيف يعاقب البحر سمكته الصغيرة؟ اذهبي قبل الظلام الذي يخيف، اذهبي مع آخر خيط للضوء، وسأنتظرك هنا كل صباح، سأنتظرك في أي أرض أكون فيها.

تراجعت الموجة ببطء للوراء، كانت حركتها ثقيلة تحت وطأة الحزن، لم تعرف الخوف على أحد كما عرفت الخوف على هذا الوحيد، حاولت أن ترسم ابتسامة أخيرة تطمئنه لأنها تعلم أن شياطين القلق ستحاصره بعدها وتأكل روحه، رفعت جانباً من جسدها المائي كأنما تلوح له، واستجمعت صوتها في جملة واحدة قالتها له قبل أن تدخل في جسد البحر:

– روحي معك،

فلا تكن لأحد غير قلبي

1 Comment

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

ما قالته المستحيلة

المقالة التالية

ولم تكن اللوحة هناك

اخر المقالات من تأويل جميلة

في البدء كانت جميلة

في البدء كانت الكلمة، ربما، لكنني أظن أنه في البدء كانت النظرة، وكانت جميلة، كأن ترى

اعتذار الفراشة

أحط بين يديك يا جميلة، لأعتذر عن حماقة صاحبي، جناحاي معطلان، جناحاي ثقيلان بالذنب حتى ترضين،

صائد التفاصيل

  الجحيم في التفاصيل، ربما.. وأولئك الذين يعيشون بذاكرتهم البصرية قد يكونون في لحظة ما أتعس

ليست مجرد امرأة

– اكتب، قل شيئاً، أي شيء، أكمل روايتك اليتيمة، لا تترك رقبتي هكذا دون جوهرة تليق