الماغوط .. آخر طفل في العالم

انتظروني قليلاً، بضع سنوات لأتخلص من دموعي في أقرب مقهى، وسأعود بعدها لأراقبكم من جلستي الجانبية، وأضحك كلص سرق زهرة فان جوخ، ليسدد ديونه العائلية. انتظروني بما يكفي لأكون جاهزاً لتفاهاتنا الكبيرة، تفاهاتنا التي نصنعها سوياً على رائحة التبغ والقهوة، سأتحدث معكم عن النساء والخيانات القصيرة، والقبلات المؤجلة كذنوب طيبة، والحروب الصغيرة تحت الطاولات، وخلف الأبواب ، وسأكون – أعدكم- كما تعرفونني ، أنفق راتبي في أول أسبوع من الشهر، مطمئناً لثلاجتي المملوءة بالأجبان، والسجائر ومكعبات الثلج

انتظروني قليلاً، سأخطف قدمي إلى بائعة الزهور أمام مستشفى النور، سأترك لها عيني أمانة مقابل وردتين، أبعث بهما إلى قبر آخر طفل في العالم، ذلك الذي مات في الثانية والسبعين مستغيثاً بالسيجارة والهاتف

انتظروني قليلاً، بضع سنوات سأمشيها حافياً إلى بيروت ودمشق، سأودع صديقاتي البريئات، وأهاتف أمي كاذباً: “سأهاجر زمناً يا أماه إلى الشام”، فتسألني عن البلاد التي لم تسمع بها نفطاً أو رزقاً يعمر البيت القروي، سأكذب حتى لا تموت بخوفها إذا أخبرتها بغايتي: ” سأضع وردتين على قبر رجل حزين.. و أعود “
انتظروني قليلاً ، سأعود إليكم بحكايات جديدة عن رجل حرق رئتيه في شتاء عربي طويل، سأحدثكم عن حزنه الأبدي في ضوء القمر، عن وصاياه، و الينابيع التي أغرقتني تحت نخلة البيت القديم، عن كتابي الأول المخبوء في حقيبة الدرس، وعن المطر، والطيور، والبلاد ” التي تسير كالريح إلى الوراء”

انتظروني قليلاً حتى أعود ، لأن الرجل الذي مات بسيجارته أوصى لي بالأسى والحزن ، منذ دسست كتابه أسفل السرير كيلا يشدني أبى من أذني، حين يسألني عن واجبي المدرسي،فأرتعش كطيوره المهاجرة، طيوره التي أقامت له قبراً على شجر بيروت ودمشق.

انتظروني قليلاً، حتى إذا أخذتني الدموع إلى جواره حارساً جسده من العتمة والثعابين، لا تتعقبوا بكائي هذه المرة، ولا تظنوا بي السوء،
و لا تبخلوا على روحه وروحي بفاتحتين
تعرفون اسمي..
وهذا اسمه كيلا لا يخطئه ثواب الفاتحة:
اسمه ” محمد الماغوط “.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

الروح الهائمة في .. لا يدخل الليل

Default thumbnail
المقالة التالية

امرأة.. المريض الإنجليزي

اخر المقالات من سيرة الحنين والفوضى

THE VOICE OF ENIGMA

بالأمس قررت أن أكون وحيداً مع صوت “إنيجما”، قررت أن أكون مخلصاً لها لمرة واحدة، وفي