لا نحب الليل الذي يرن الهاتف في ساعاته الأخيرة، نسمع صوت الرنين فنقفز كمن لدغة عقرب، نمسك الهاتف خائفين من الإجابة، خائفين من خبر أسود يحمله هذا الذي ينتظر على الطرف الأخر، نكاد نجيبه فنتردد دافعين عن رؤوسنا المصيبة المتوقعة، مطمئنين إلى التجاهل، راغبين في النوم والصباح كفيل بالنسيان، يصمت الرنين قليلاً فنفرح لانقطاعه لكنه يعود ثانية فتقع قلوبنا ويكبر الظن بأن أحداً من الأهل والأصدقاء أصابه سوء، وإلا لماذا هذا الرنين في ساعة متأخرة ينام فيها الناس إلا أولئك الذين مسهم الضر.
لا نحب الليل الذي يرن فيه جرس الباب في ساعاته المتأخرة، ونحن نستعد للنوم مجهزين أرواحنا لهدوء مقتطع من الوقت المزدحم بالقلق، نسأل في توتر من هذا الذي جاء صاعداً البناية ليضغط جرس الباب ؟ أي نبأ يحمل ؟ نخمن في ثوان خاطفة اسم الذي يرن الجرس وهيئته، ربما صديق ينعى إلينا صديقاً، ربما حارس البناية يحذرنا من حريق، ربما ضيف ضاقت به الأماكن فتذكر أسماءنا وبيوتنا، ربما أحد من الجيران تأخر به السهر فأخطأ باب شقته.
لا نحب الليل الذي تزدحم على أطرافه الوجوه والطرقات، همس الأصوات البعيدة، الأغنيات الحزينة التي تجر القلب من شراينيه، وتشعل النار في الدم فيبدأ الغليان والأرق، نتقلب على جمرة بحجم جبل، الوسادات من شوك والأغطية الخفيفة تشف عن الهم والغم، لأن حيلة العاجزين المطاردين بالذي فات لا تغنيهم أمام ضعفهم، فندور ونلف من غرفة إلى أخرى باحثين عن البراءة من ذنب النسيان المتعمد، من ذنب التجاهل والهروب.
لا نحب الليل الذي تكون فيه الكلمات جارحة، لحظتها يصبح الوقت ثقيلاً يمر ببطء وتخرج الأنفاس من الصدر كما يخرج الهواء من ثقب إبرة، نبحث عن عذر لمن قال كلمته ومضى، نبحث عن غفران لمن أغمد خنجره في الظهر واختفى، نبحث عن رحمة لمن أطلق رصاصته من فمه وبات يجهز نفسه ليمشي في جنازتنا، نقول ربما لم يقصدنا، ربما لم تكن جريمته مدبرة، ربما سذاجة أوقعته في الخطأ، ربما نحن المذنبين بحساسية مفرطة، ونظن بالآخرين الظنون.
لا أحب الليل الذي أعرف فيه بموت أحد، بفقد من عرفتهم مصادفة أو عن قرب، حينها تجيء الأحزان من كل صوب وحدب، يعيدني الأسى إلى القرية البعيدة، ليلها المعتم، سكونها المسروق من وحشة المقابر، صرخة امرأة تشق الصمت والبرد في منتصف الليل، وخطوات لاهثة على طريق ترابي، صوت بكاء على من أغمض عينيه إلى الأبد، ونباح كلاب أيقظها العويل، ولا شيء يشد الصباح النائم، فيما يسهر الناس أمام بيت الذي خرجت روحه، وفي صدورهم تلتقي عتمة الليل والموت.
لا أحب الليل الذي تبكي فيه امرأة على الهاتف
لا أحب الليل الذي تكثر فيه الأسئلة فأكلم نفسي
لا أحب الليل الذي أنام فيه بحرائقي المجهولة
لا أحب الليل الذي تنسحب فيه الطمأنينة وتضيق المدينة
فأشرد خلف ضوء وأغنية
وأمسك بطرق السرير:
لا أحد
لا رائحة
لا بساتين أغرق ببطء في مائها.
الليل الذي لا نحبه
اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت