لا يزال صوته خطاف القلب، ونبرته في آذان المغرب تجري مجرى الدم في الشرايين. صوتٌ ينفض عن الأربعيني غبار السنوات الثقيلة عن كتفيه. صوت المؤذن الذي كان يظن الطفل أنه سحر عذب يجيء من خشب الراديو إذا جاء رمضان، ويجف خشب الراديو من طراوته إذا ذهب رمضان.
صوتُ قيثارة من السماء، لا يغلبه صوت مؤذن الجامع القريب، لا يغطي عليه آذان الميكروفون أعلى المئذنة الطينية المهترئة. يهز الجد العجوز مسبحة اليد ويشير إلى الراديو، وإشارته أمر من اثنين، اغلقوا الملعون عن الغناء، أو ارفعوا الصوت قبل الآذان بقليل، وحين يعلو الصوت يجيء بسحر النبرة الأثيرة.
الآن، يفتش الأربعيني عن صوت المقريء المؤذن، عن قيثارة السماء، كأنما يفتش عن طفولته، عن جلسة جده ورأفة أبيه، عن رحمة الأم بشالها القطيفة. كان الطفل بين صوت وصورة، صوت هذا الذي يسحره أمام خشب الراديو، وصورة شيخ المسجد الذي يرقبه هادئاً، وخطواته على الطريق الترابي لا تترك خلفه سحابة غبار. طيباً، لا يعرف القسوة ولا تكتسي ملامح وجهه إلا بابتسامة ووقار، حين يرقبه الصبية قادماً من بعيد، من طرف القرية النائي قاصداً المسجد الطيني لخطبة وصلاة الجمعة، يفسحون له الطريق محملقين في جلبابه وعمامته فيبتسم لطفولتهم ملقياً عليهم سلاماً طيباً فيتحمسون في الرد حتى يصرخ بعضهم بصوت كالصفير ” السلام ورحمة الله وبركاته” طامعين في الرضا وفرحين بالرد على الشيخ الإمام.
في رمضان يصبح إفطار إمام المسجد وسحوره اليومي موزعاً على بيوت العائلة، وما بينهما من الوقت ينقضي في مجلس الكبار ما بين الوعظ والتلاوة وأكواب الشاي التي تدور رحاها بلا ملل، يجهز له الناس مقعده والميكروفون الممدودة أسلاكه حتى أطراف بطارية متهالكة يرجها صاحبها حين تخور قواها حتى لا يفقد سمعته وأجرته آخر الليل، يهمهم الشيخ بالأدعية والأحاديث ويمد يده إلى جيب خلف قفطانه الأزهري ليخرج كتاباً باهت اللون ويقرأ خطبته المسائية عن فضل صيام رمضان، وبعد أيام تتداخل التواريخ والمواعظ ويتجاوز المناسبة حسب ما تقع عليه عيناه في الكتاب من فضل صيام رمضان، إلى الإسراء والمعراج، إلى فريضة الحج، نهاية بعذاب القبر، كان لصوته أثر لا يذهب إلا حين تدخل الأجساد والأرواح في النوم، تتبعه العيون حين يميل يساراً ويميناً وتتهدج نبراته بالبكاء، فيهتز الجالسون تأثراً: ” الله ينوّر عليــك يا شيخ”.. ” بارك الله فيك”.. ” اللهم تقبل “، أما الذي يحرس بطاريته المهترئة فلا يكف عن مراقبة أسلاكها خائفاً أن ينقطع الصوت فيصب المندمجون لعناتهم عليه وحده.
لم يكن ثمة كهرباء ومصابيح معلقة في السقف، كان الضوء موزعاً بعناية عبر توزيع لمبات الجاز والكلوبات التي تأكل الفراشات بنهم، فيما كان السقا العجوز يدور بصواني الماء والشاي رافعاً جلبابه حتى ركبتيه بحزام حول خصره، حزام جلدي مهترئ ربما وجده ذات يوم ملقى أمام بيت أو مدرسة.
الآن كلما سمع الأربعيني صوت القيثارة الطيبة، كلما وقع آذان الشيخ محمد رفعت في أذنيه وقلبه، ارتعش رعشة طفولة أمام ذاكرته، استعاد رائحة ثيابه القديمة، البيت الكبير ببابه الضخم ومغلاقه الخشبي الذي لم تصله يداه إلا حين طال جسده وتضاعفت سنوات عمره.
الآن لصوت القيثارة عذوبة قاسية، حنين جارف وحاد إلى كل ما أصبح ماضياً وعصياً على الرجوع. يبكي الأربعيني وهو يرقب في أعماقه صورته طفلاً حين يجيء صوت محمد رفعت، صورته طفلاً أمام نخلة البيت، ملمس العشب في الحقول، نعمة الأقدام الحافية على تراب وزرع، خجل طفولته الصامتة حول طبلية الإفطار، وأمنية مكتومة في قلبه الصغير ألا يعطيه أبوه قطعة لحم تغلب عليها الدهون أو العظم
مقال كاريكاتيزما – مجلة الصدى – 14 أغسطس 2011
هكذا قيثارات يكون لها تأثير كبير في النفوس … ذكرني مقالك حين كنت أنتظر أمام المسجد القريب من بيتنا حين كان لي وطن وبيت … كنت أجلس على شرفة مظلمة كي لا يرى تأثير صوته الحنون علي أحد …
أتعلم ليس مجاملة أبدا .. لكن ما أقرأه هنا أقسم أنه ما وصفه القباني في وصفه لحب أمرأه يبحث عنه فقال أنه يحمله لحدود الشمس ويرميه … هكذا الكلمات هنا أسافر معها لحود الشمس فشكرا على هذا اﻷبداع … ليالي الحنين
اشكر لك حضورك هنا دائما، وأشكر لك كلماتك معتزا بها كثيرا. تقديري