الفرح المتاح

 

مات ولم أزل أحبه، ربما لأن الموتى الجميلين يستحقون الاعتراف بالحب، يستحقون أن نقولها بعدهم من دون شبهة مجاملة أو غاية: نحبكم أيها الغائبون.
أعترف الآن أنني أحب هذا الذي كان يرعانا كشجر صغير في شرفة الحياة. كنا صغار العمر والتجربة، غير أن لأحلامنا أذرعاً ممتدة حتى سقف السماء. كان يكبرنا بعشر سنوات أو يزيد، نلف وندور في حرم الجامعة، ننشد القصائد في أمسيات لا تخلو من رجفة قلب أمام وجه فتاة تترصد النبرة، وتطارد اللثغة حين تقع أول الراء، وكان هو يذهب إلى القاهرة ويعود إلى بيت عامر بالخير والشعر في الجنوب. ينقل أحدنا الخبر كعنوان قصيدة ” جاء مشهور”، فيجتمع في المساء مريدوه، يطل بوسامة طيبة، وحزن شفيف يسكن العينين. كنت أحسبه كائناً خرافياً لطيبة ما كان عليه، للتنهيدة التي يصنعها في القلب حين يبدأ في فتح خزائنه، ويلقي قصيدته الجديدة. عوالم لم أكن أختبرتها إلا صوراً في قصائده، وتجليات روح مغايرة، كان شاعراً في صمته وسكونه،  وفي أدبه الجم  الذي لا يدل إلا عليه. كنا حين يبدأ في إلقاء جديده نصمتُ أمام صوت روحه:
(مسمارْ
كنتُ أظن سأحدثُ صدعًا
 في الجدرانْ
إذ أتغلغلُ فيها
لكني
–  حين تغلغلتُ  –
صدئت قدمايْ
فتوارى الجزء المشرق فيَّ
وانكسر الجزء الحادْ
 – يبدو أني لم أُحسن تقدير قوايْ  –
وتدلّى رأسي في الطرقاتْ
لكني
– أعتقدُ –
كسرتُ سكون الحائط
وخلقتُ جمالاً لم أقصده)
آهٍ، أذكر قصيدة مسمار، أذكرها اللحظة مع عشرات القصائد الملقاة بإيقاع نبرته في صالة بيت أبيه. أذكر الطاولة الهادئة، أكواب الشاي الصغيرة، طبق الكيك المعد بيد الأم الطيبة، وقفزة الوقت إلى حد الصباح،  وحين نعود إلى بيوتنا تكون الرؤوس مملوءة بما سمعناه ولامس القلب والروح، إنها اللغة المغسولة بمياه أنهار جارية، والصور التي تكاد تتجسد كائنات تقطع طريق العودة بجوارنا:

(لم أزل لا أرى في الغرام
 سوى رجلٍ وامرأة
يقبضان على روعة الوردِ
يصطحبان النخيل إلى معبدٍ
حيث يغتسلان من الحكم الباطلة
يعرفان إجابة ما دار من أسئلة
ثم يكتشفان بريق ابتهاجهما
فيطيران للنبعِ:
– يا أيها الكونُ
أنت تضيق على فرحتي)

كانت دهشتنا حاضرة حضور الطفولة في زمن التشكل، وكانت للغة  مشهور فواز ظلالها في لوحة العمر، نستمد جرأة السؤال من خجله الجميل، فنحمل من مكتبته ما نشاء، نتعارك على نسخة لا ثان لها، نستعير من حقيبته ما جاء به من مكتبات لا تصل إليها عيوننا، كان فرحنا المتاح في أمكنة ضيقة، وجيوب ضيقة، فما رد سؤالاً عن طلب كتاب، وما انصرف عما ما نخطه من بهجة وعذابات.
مضى العمر به وبنا، رافقناه صديقاً في عاصمة الأحلام والإحباطات، صار بيته في حلوان مقصدنا وغاية أرواحنا، حتى جاء إلى الإمارات معلماً للغة وأسرارها، تفرقت بنا السبلُ، وكبرت خرائط المسافات الفاصلة، لم يكن قريب الجسد لكنه كان جزءاً من دم يفور بالحبر والورق في شراييننا، حتى دارت به الدنيا على سرير المرض، خذله قلبه فتوقف فجأة يوم نعاه الناعي بعنوان وفاجعة: مات مشهور فواز.
سنوات مضت منذ أن أغمض مشهور فواز عينيه، لكن عينيي مفتوحتان أبداً على حقوله في دمي، وآهتي بعد كل عزيزٍ وغالٍ تصبح جبلاً وعتمة:
آهٍ، كل غيابٍ تسقطُ شرفة من روحي

 مقال (كاريكاتيزما)- مجلة الصدى- 28 أغسطس 2011

2 Comments

  1. هكذا هو الموت … ينتقي أروعهم ليخطفه … كأن الحياة لا تستحق بقاء الرائعين فيها … هكذا رحل بعض أصدقائي … وهكذا يرحل في كل يوم المئات في وطني …
    هناك من يرحل فترفقنا ذكراه حتى في أحتضارنا … وهناك من نلقي عليه تراب النسيان قبل تراب اللحد

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

هي ذاتها

المقالة التالية

من يكره فيروز؟

اخر المقالات من تحت ظلال الآلهة

سارقُ النار

لا لغة تقدر أن تكون الريح إذا شاءت أن تصف الريح إلا إذا كان كاتبها عاصفة،

العبقري

  كان غبار القرى لا يزال رائحة قميصه حين كانت تتكرر مصادفات المصعد في المبنى الزجاجي،

ما أجمل ضحاياك

قبله هل كان الشعر يمشي على الأرض؟ قبله لم يكن للشعر قدمان، كان له أجنحة لا

من يكره فيروز؟

  أنا أكره فيروز طاوعه لسانه وقلبه مرة ونطق بها، تورط في غضبة الغيرة، ولم يكن