الغرفة رقم 8

أعود إلى أمل كثيراً، ما أكثر أسباب العودة حزناً ويأساً ومرارة، فألتقط هذا الحس الإنساني مقابل الانكسارات المتراكمة كجبال من الهم لا تهزها الريح، ويزداد يقيني بما قاله أدونيس: ” الذين ولدوا ليضيئوا يموتون”، ومات أمل يابسا تحت وطأة سرطانه الذي صارعه طويلاً في معهد الأورام محاصراً بالبياض.
سنوات كثيرة وأنا أقطع الطريق الموازي لمعهد الأورام في شارع القصر العيني في القاهرة، ولم أفلح في تجاهل جدرانه الخارجية الرمادية التي تصدر إليك الكآبة دون مقابل ليضيق صدرك مرتين، مرة لهذا الاسم المخيف الذي يحمله المبنى، ومرة ثانية بسبب هيئة الجدران الخارجية الدالة على الموت النائم خلف الأبواب.
كلما مررت بجواره حاولت جاهدا أن أشيح ببصري بعيداً، وأن أشغل ذهني بشيء ولو صغير وتافه، فأتابع المارة على الناحية الأخرى، أو أحادث سائق التاكسي في شأن الزحام الذي أجبرنا على التوقف لأكثر من عشرين دقيقة، غير أن التوقف الطويل يدفعني غضباً إلى النظر إلى ناحية اليسار لأراقب المبنى الرمادي، فيقع قلبي أسفل قدمي وأتذكر صاحب الغرفة رقم (8) الجنوبي الراحل أمل دنقل، أكاد أسمع صرخاته المكتومة وزواره الصامتين العارفين بمصيره المحتوم الراصدين علامات الرحيل على وجهه وملامحه البارزة وجسده النحيل.
في كل مرة كنت أقول سأدخل المبنى وأنظر في الغرفة رقم (8)، وأرى من حل بديلاً عن الجنوبي الراحل، سأرصد لون الجدران وبياض الأسرة والمفارش، وأتخيل باقات الورود التي كانت تحيط بسريره وهو يراقب بشفافية الموت النائم في عطرها وأوراقها الناعمة، لعله على حافة الغياب كان يرصد معاني وصور الموت المتعددة حوله:
” كل باقة بين إغماءة وآفاقه
تتنفس مثلي بالكاد ثانية ثانية
وعلى صدرها حملت راضية
اسم قاتلها في بطاقة ”
أقول سأدخل المبنى والغرفة رقم (8) ثم أطرد الخاطر وأتخلى عن المغامرة، وأشعر في لحظة بأنني مسكون بخوف هائل تتعدد مصادره، وأن ضيق الصدر بالمكان يسلب جرأتي ويعيدني إلى منطقة الصفر دائما، منطقة الفكرة والخاطر واكتشف كم كانت صلابته وإرادته، وأسال نفسي هل أنا جبان إلى حد الخوف من اسم مرض ومبنى رمادي ؟
لماذا أكتب اليوم عن أمل دنقل، لا مناسبة أو ذكرى، أو نص نادرا تم اكتشافه؟
ما الذي أبحث عنه في قصائده وحياته التي عاشها متعبا بالناس والوطن والمرض؟
لا أنا، ولا أنت في حاجة إلى جهد أو مناسبة للتذكر، يكفي أن تكون حقيقياً مثل الجنوبي لتصرخ هارباً من هزائم وانكسارات تتكاثر حولك كالجراد، مستغيثاً بـ” أمل” ولو كان مثقلاً بالتراب:
” نم يا صلاح الدين
نم تتدلى فوق قبرك الورود
كالمظليين
ونحن ساهرون في نافذة الحنين
نقشر التفاح بالسكين
ونسأل الله القروض الحسنة
فاتحة
آمين. ”

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

تمام الشيء

المقالة التالية

عينان مظلمتان على جسد مهيب

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت