لا أظن أنني أحببت العقارب يوماً ولو لساعة واحدة، ولي معها حكايات كثيرة في ظلام القرية البعيدة، لكنني حين أخذتني المدن وخطفت قلبي الطرقات الإسمنتية، تحسرت على طيبة العقارب القروية التي كانت تزحف تحت عتمة الليل وحيدة ومتعبة من قيظ الصيف ورطوبة الجدران، أستطيع الآن أن أشعر بالمحبة والفقد لتلك الصرخات المدوية التي أطلقتها ذات يوم وأنا أتحسس رأسي فزعاً، كنت في الثامنة من عمري مسكوناً بالرعب من العقارب، لا أثق بفراشي إلا حين أقلّبه باحثاً عن الخطر النائم أسفل الوسادة أو الغطاء، لكنني في الليلة المشئومة كنت متعباً إلى حد نسيان مهمتي اليومية في التفتيش، كانت ليالي القرى النائية بعيدة عن رفاهية الكهرباء والمصابيح الشفافة المدلاة من الأسقف، لم يكن يضيء تلك الليالي غير ” لمبات ” تذهب نارها ساعة بعد أخرى حين يجف قلبها من الكيروسين ويسود زجاجها
في ذلك المساء ثقلت عيناي بالنوم فألقيت بجسدي الصغير على الفراش، دقيقتان فقط وشقت صرختي صمت الغرفة، كنت أصرخ باكياً وأنا أمسك بجانب رأسي الأيمن، فزع الأب وهو يسألني دون أن أجيب من فرط خوفي، كان ألم السم يسري ولا حيلة لرباط يوقف زحفه باتجاه القلب، أشعل الأب عود ثقاب صغير باحثاً عنها، كان يعرف بالتجربة أنني وضعت رأسي على عقرب•• لكن أين هي؟ كنت أبكي بين يدي الأم التي تلوّن وجهها بصفرة الخوف، فيما كان الأب يواصل بحثه عن هذه العمياء التي تركت لي سمها واختفت، انطفأ عود الثقاب الأول والثاني والثالث حتى عثر عليها أبي راقدة تحت طرف الغطاء، أخرج مطواة صغيرة من جيبه وغرسها في ظهرها، ورفعها أمام عيني لأهدأ ويتوقف بكائي، وفي الوحدة الصحية استيقظ الطبيب غاضباً وهــو يسـب ويلعن ويقسـم أنني عاشـر شـخص يجيـئه ” ملدوغاً ” وأن مصل العقارب يكاد ينفد•
لم أمت يومها من تلك العقرب الصغيرة العمياء، لم تقتلني عقرب القرية البعيدة النائية، تركت في قلبي خوفاً من أنواع العقارب وأشكالها، لكنني حين هجرت القرى إلى المدن عرفت أشكالاً وأنواعاً كثيرة من العقارب، عقارب تمشي وتتكلم وتبتسم في وجهك، عقارب ترتدي ثياباً عصرية وأربطة عنق وتضع عطوراً باريسية، عقارب تلقي عليك تحية الصباح وتمد يدها مصافحة، وتحدثك عن أحلامها فتظن أن بينكما تاريخاً مشتركاً من الذكريات، عقارب تدعي الثقافة والمعرفة وتتوهم أنها أجدر منك ألف مرة، وأعرف منك ألف مرة، وأنك الشيطان على الأرض، عقارب لها هيئة نساء تظن أنهن طيبات وبسيطات بساطة ثيابهن، يمشين على أطراف أصابعهن، يزحفن فلا تشعر بهن إلا أمامك، يحدثنك هادئات وناعمات فتسأل نفسك في صمت: من أين جئن بهذه الرقة وقد عشن حياة خشنة مملوءة بالفقر والحاجة ينكرنها كأنما ولدن في قصور؟ ولأنهن فاشلات يعشن على التقاط التفاصيل والحكايات الصغيرة، ينقلنها بين الناس كأنما قوتهن في لعبتهن•• في القيل والقال
عقارب لها هيئة رجال، يمدون إليك خيوط الصداقة، على وجوههم ابتسامات صفراء، يقسمون بأغلظ الإيمان أنك الصديق الصدوق، وأن حياتهم دونك ناقصة، وأنك لا تقدرهم حق قدرهم، وفي الخفاء، على بعد خطوات منك يدبرون حيلة ماكرة ضدك، ويحيكون المؤامرات والحكايات عنك
في القرى.. العقارب جاهلة وعمياء..
في المدن.. العقارب تفك الخط وتتحدث في السياسة والحب.
في القرى.. العقارب تزحف في العتمة.
في المدن.. العقارب حولك في كل مكان، تقود السيارات وتشرب الشاي والقهوة، وتقابلك مصادفة في الشوارع وأمام البنايات.
في القرى.. العقارب لا ترتدي الأقنعة.
في المدن.. العقارب لا تعرفها ولا تخمن من أين تأتيك
ولا تقدر على قتلها بعود ثقاب.
العقارب لا ترتدي الأقنعة
اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت