كان غبار القرى لا يزال رائحة قميصه حين كانت تتكرر مصادفات المصعد في المبنى الزجاجي، تقع المصادفة فتقبض على روحه، ويرى صاحب “النداهة” مقابل عينيه في مصعد واحد، تتخطفه الهيبة، ويصعقه برق المفاجأة، فينزوي في ركن المصعد حتى يحل طابق المهيب والمدهش، ولم يكن طابقه سوى طابق الفتي ذاته، ولذا لم يكن الفتى يجرؤ أن يخرج إلى الردهة قبله، كان يتبعه ببطء كظل خائف ومرتبك، فإذا دخل الإدريسي مكتبه انفكت عقدة من الفتى في لسانه وقدميه، فدخل صالة التحرير ملقياً بجسده النحيل على أول مقعد، حتى إذا سأله رفقاء الحلم والتشكل: ما بك تلتقط أنفاسك من بئر لا هواء فيها، قال لهم بين شهيق وزفير متباعدين: قابلته في المصعد.
كانت الأحلام في أول طلوعها، مثل زهرات قطن الحقول البعيدة، تطل ببياض قلبها إلى المدى المتسع تحت الشمس، وكان الرفقاء يتباهون بما جادت به المصادفات عليهم حين يلقون التحية العابرة والمرتبكة على قامات شاهقة لم يحسبوا يوماً أنهم سيكونون أمام أصحابها وجهاً لوجه.
كانت الأحلام في أول طلوعها، مثل زهرات قطن الحقول البعيدة، تطل ببياض قلبها إلى المدى المتسع تحت الشمس، وكان الرفقاء يتباهون بما جادت به المصادفات عليهم حين يلقون التحية العابرة والمرتبكة على قامات شاهقة لم يحسبوا يوماً أنهم سيكونون أمام أصحابها وجهاً لوجه.
مضت بالفتى سنواته الأولى صاعداً وهابطاً في مصعد المصادفات البهية، حتى قرر أن يعلن جرأته، ويطرق باب “العملاق” ليطلب حواراً معه، استقبله سكرتيره بأدب جم، وسأله عن غايته، فقال له: أريد موعداً مع الدكتور يوسف. الموعد الذي تعلق الفتى بأحباله جاءته الموافقة عليه بعد يومين. كان الوقت أبطء مما يتحرك في قرص الساعة، بطء انتظار المقابلة التي تضغط على رئتي الفتى فلا يكاد يجد هواء ينقذه. رتب أسئلته التي أعدها بعد جهد، وراقب السكرتير في صمته وانشغاله برنين الهاتف والأوراق من أمامه وخلفه، حتى رن الهاتف الداخلي على طرف مكتبه، رفع السماعة، فرع الفتى رأسه من غرق قلقه، وضع الرجل السماعة، فارتفع ضغط الفتى وتعلقت عيناه بشفتي السكرتير الذي أشار إلى باب المكتب بهدوء: الدكتور يوسف في انتظارك.
يذكر الأربعيني الآن كيف طرق بخفة على باب يوسف إدريس قبل أكثر من اثنين وعشرين عاماً، يذكر جبال الرمل في قدميه وهو يجرهما ليصافحه، يذكر دقات قلبه كأنها طبول أفريقية تدب في شرايينه، غير أن الحوار الأول فتح طريقاً إلى حوارات تالية، وطريقاً إلى محاورة زوجته السيدة “رجاء” وابنته ” نسمة”، وابنه ” سامح”، اقترب الفتى من عالم يوسف إدريس، فسأل عن وقته، عن أبوته، وعن طقوسه في الحياة والكتابة، يذكر الفتى كيف روت زوجته عن الدماء التي كانت تسيل من وجهه في أثناء الحلاقة حين كان مندمجاً في كتابة ” الفرافير”، كان يلوح بيده، ويتمتم بأصوات أبطاله، ويضغط بشفرة الحلاقة من دون وعي على بشرة وجهه. هكذا تكشفت للفتى عوالم من تعلق به، تكشف له أي عاصفة هو يوسف إدريس، أي غرائبي، أي حنان وحب يجريان على لسانه حين يهاتف صغيرته “نسمة” من مكتبه عارضاً عليها الحديث إلى صحفي في حوار مصور.
لم تكن عبقرية يوسف إدريس في ما كتب فقط، كانت عبقريته في حياته مرادفاً آخر لروحه، وحين أغلق الموت حياته، طارد الفتى ظله في قريته البعيدة، استقل سيارة الجريدة، قاطعاً الطريق إلى قرية “البيروم” في محافظة الشرقية، باحثاً عن حضور يوسف إدريس في لحظة وفاته، حضوره في الرائحة والكلام، في عيون من عرفوه طفلاً، وفي ذاكرة شقيقه وأبناء قريته، في القبر الذي بناه قبل سفره للعلاج، في وصيته الأخيرة، وهناك في قريته الصغيرة، لم يكن يوم غيابه سوى إعلان محبة عظمى تليق برجل عظيم.
عشرون عاماً مضت على رحيل سويف إدريس، عشرون عاماً لا تستطيع أن تطفيء شمعة واحدة من شموعه التي أوقدها بدمه في كل كلمة وسطر، وكما يقول إبراهيم أصلان « إدريس لم يكن ذلك الحكاء العظيم فقط، بل كان حالة ثقافية كاملة قوامها الكبرياء والمناكفة، كان رمزاً لزمن بكل أحلامه وخيبات آماله، بكل إنجازاته وكل خطاياه
مقال كاريكاتيزما – مجلة الصدى – 25 سبتمبر 2011