عاش حياته مهيبا شرايين يديه النافرة لا تشف عن ضعف، كنا نراقبه من بعيد في طفولة تخشى هيبته الغامضة، وحين ترق ملامحه في دعابة أحدنا نتقافز حول رائحته المغمورة بعطر الأرض، ونحبه في خوف، ونحلم بشاربه المشدود كشراع سفينة.
أية محبة طاغية في الخوف سكنت قلوبنا للجد المهيب ؟ لصوته إيقاع طبول الغابات،ولنبراته خشونة قشرة الحقول الظامئة،من بعيد وعلى الطريق الترابي طالما عاد من سهرة أنهت نزاعاً عائلياً قبل أن تشتعل نار الخصومة والثأر، نلمح عباءته السوداء أسفل ضوء قمري خفيف فنتسابق إلى الفراش ، وندخل في نعاس وهمي خوفا من عتابه
فجر كل يوم تبدأ الحياة مع يقظته المبكرة
ألا ينام جدنا أبداً ؟
نسأل أنفسنا سراً، ونشد الأغطية على أجسادنا الصغيرة في تلك الصباحات الشتائية البعيدة خائفين أن ينهرنا بنظرة واحدة من عينيه الضيقتين تدفعنا للقفز من دفء السرير إلى برودة الشارع الذي نقطه بتثاؤب وعيون نصف مغلقة حتى نصل أطراف الحقل لتبدأ رحلة الري والحصاد مغروسة أقدامنا في الطين نفتح للمياه طريقا هنا ونغلق طريقا هناك وهو لا يتعب أو يمل ينتصف النهار فنجد الجوع مبرراً للعودة إلى البيت تحت حراسته.
كان الجد العجوز يحبنا بطريقته
كان كتوما حين يمنحه الآخرون أسرارهم…
ساخطا وقاسيا في تأنيبه وكنا حين نرى ارتعاشه الرجال أمامه نتساءل أي رجل هو ليعصر قلوبهم حين يخطئون؟
لم نكن نجرؤ على أن نضع المشط في جيوب قمصاننا، كنا نخاف غضبه لحظة يلعن الحلاق الذي مرض حماره فتأخر أسبوعين عن موعد مروره، شاهراً مقصه وفرشاة قديمة تتساقط شعيراتها في رغوة الصابون.
ظل المشط وصمة عار ” نداريها ” في حقائب المدارس، وجيوبنا السرية نمشط شعرنا سراً حتى لا ترصدنا عيناه الضيقتان، فيصفنا ناقما بـ ” الأفندية الخنافس”، ويتحسر على رجولة أحفاده الصغار الضائعة الذين استبدلوا الفأس والمنجل بأمشاط ملونة لا تليق إلا بالنساء.
وحين يطول الشعر قليلاً ويلمح فرحنا الطفولي به، يرسل في طلب الحلاق من القرية المجاورة فيأتيه ماشياً، ثم يجلس أمام باب البيت العتيق، يفرد على الأرض قطعة القماش الملفوفة على الموسى والمقص والفرشاة والكوب المعدني الذي نملأه له بالماء ناقمين وباكين، فيضع فيه قطع الصابون الرخيص ويبدأ مقصه جريانه السهل في رؤوسنا الصغيرة ليختلط الشعر بدموعنا، ونحسد ببراءة من هرب منا إلى المزارع وحقول النخيل ونجا من غضبة الجد ومقص الحلاق.
كان للمهابة التي تشع من حضوره طغيان عجيب لا تخلو الاستراحة التي أقامها أمام البيت من زواره الباحثين عن حلول غابت عن أذهانهم تتقابل الوجوه وتدور أكواب الشاي الأسود وترتفع سحب الدخان حتى سقف الاستراحة المشدود من جريدة النخيل.
كتوما حين يمنحه الآخرون أسرارهم
ساخطاً وقاسيا في تأنيبه حين يخطئ أحد في العائلة وكنا كثيرا ما نرى ارتعاشه الرجال أمامه يا الهي أي رجل هو ليعصر قلوبهم حين يخطئون.
في الخامسة والسبعين جاءه ضيف ثقيل لم يغادره أبداً، دخل السرطان جسده فبدأ كشجرة الجميز العتيقة، تضمر فروعها واحداً بعد الآخر، وفي استعلاء أخير تقف صامتة بينما يشتعل قلبها بالحريق، غير أن تنهيداته كانت تفلت غصبا تحت وطأة الألم، ويوماً بعد يوم إذا بالتنهيدة صرخة طويلة، وإذا نحن أمام اكتشاف كان من قبل مستحيلاً: هل يصرخ جدنا المهيب؟
هل يعرف الألم مثلنا هذا العجوز الخرافي؟
قبل أن ينتصر سرطانه بيومين رأيـتُ اصفرار وجهه، كتمتُ ما قرأته في عينيه من احتمالات محزنة، شممتُ رائحة التبغ في غرفته فرجوته أن يتوقف، أمسك بيدي ولم يقل شيئاً، انحنيـتُ على جبهته تاركاً أول وآخر قبله: ( من كان يجرؤ على تقبيله من قبل؟
وعلى الطريق الترابي مضيت مختنقاً بالبكاء، باحثاً عن هواء يطفيء حرائقي:لتكن مشيئة الله، لتكن راحة جدي قريبة ؟ …”الأشجار تموت واقفة “
العباءة السوداء

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت