الرجلُ الواقفُ

/
(1)
فتش الرجل الواقف في عربة المترو عن وجهٍ واحدٍ يعرفهُ، وجهٌ واحدٌ ربما رآه مصادفةً في مكان ما، غير أنه لم يعرف أحداً، ولم يكرر نظرته مرتين على أي وجهٍ لمن جلسوا محظوظين، أو أحاطوا به واقفين في صمت.
 قال الرجل الواقف لنفسه: الوجوه عناوين أصحابها، والعيون أبواب أرواح، وكثيرةٌ هي –إذاً- بيوت الأرواح التي لم يدخلها، لكن الرجل الواقف لم يشعر بغربةٍ، أحب من لا يعرفهم، أحبهم بلا مقابل، ودون سابق معرفة، وعلق عينيه في سقف العربة، وهو مبتهجٌ  بجهله، ذلك أن المعرفة نقمة، والاكتشاف قلق، والعربةُ التي تحمله مع الآخرين إلى شؤون وشجون، هي أشبه ما تكون بالحياة.
 هكذا حين اقتنص الرجل الواقف طرف الحكمة فيما هو عليه، تمنى لو أنه في عربة العمر لم يعرف وجوهاً أفسدت عليه بهجة الحياة ولو قليلاً.
(2)
الرجل الواقف في الهواء الطلق، في شارع جانبي، تساءل في شرود عن البنايات البعيدة على الجانب الآخر، لم يرها في علوها الشاهق حديداً وإسمنتاً، رآها دماً ولحماً، بشراً في طوابقها يمارسون الحياة دون أن يعلموا أن رجلاً واقفاً يدخن يتخيل أحوالهم، ويخمنُّ قصصاً وأسراراً.
 يقول الواقف: ربما في هذا الطابق أو ذاك طفل يقتل خمسة أشخاص في لعبته المفضلة، ربما امرأة تبكي وحدتها، زوج لا يطمئن إلى تقلب مزاج زوجته الحامل، وربما أحدهم يطرق باب أحدهم، أو حالة حب تحت ضوء شمعة معطرة، وربما حالة حزن على مريض أو ميت جعلت البيت سجناً.
تعب الرجل الواقف من شروده، واستدار عائداً إلى مكتبه في بناية ربما راقبها رجل آخر واقف يدخن، وخمنَّ ما يفعله.
(3)
يتجاوز الرجل الواقف في المصعد ألوان وأشكال الأحذية في نظرته الملقاة على أقدام الصاعدين والهابطين معه، يتجاوز خليط العطر والعرق، والصمت الثقيل، ويتذكر كم صعدتْ به الحياة وهبطت، وكم تعطل به مصعدها فبقى حبيس خسارته، وكم ضغط على رقم طابقٍ فلم يفتح له إلا بعد تعبٍ.
يكادُ الرجلُ الواقفُ في المصعد أن يقول بصوتٍ لمن حوله: اليوم تصعدون أو تهبطون، وغداً تهبطون أو تصعدون، فلا يغرنكم مصعد الحياة وفعلها، ولا تثقوا بأحوالٍ تتغير،  ذلك أن للحياة أعطال كما للمصاعد أعطال.
 الرجلُ الواقفُ في المصعد ابتسم خفيفاً لأن ما يصعد إليه الآن، سيهبطُ منه بعد حين.
(4)
تذكر الرجل وقوفه الكثير والبعيد في الذاكرة. تذكر وقوفه في طابور الصباح المدرسي، والبرد الذي يجمد الأطراف، وقوفه تحت نخلة البيت في انتظار فاكهة الأب حين يعود من المدينة العامرة، وقوفه لساعات تحت شمس القرى في حقول القمح والقطن. تذكر الرجلُ رعشة الروح واهتزازة البدن في وقفة الذنب أمام عصا الجدِّ المهيب، ووقفة الخوف من الجواب الخاطئ أمام معلم الحساب.
تذكر وقوفه الخجول وكتمان عاطفة أمام حنان الأم، لأنه تعلم من جدِّه أن البوح بالحب ضعفٌ ولو كان حباً للأم.
تذكر الرجل كل وقوفه الكثير والبعيد في الذاكرة.. وقال: يا ألله كم تحملتني قدماي واقفاً، وكل وقوفٍ جبالُ ذكريات!.
  

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

تحت القصف يقول: بابا

Default thumbnail
المقالة التالية

دعها تمضي

اخر المقالات من الأحزان الكاملة

ميتات الشاعر

   (1) في كل ليلةٍ يقتل الشاعر حبيبته، يجرها من شعرها ويعلقها على الجدار باكية، ثم

مطر خفيف على زجاج

(1) مطر خفيف على زجاج الأصابع.هي عشر جنازات في يمينه ويسراه، عشر جنازات يصافح بها الناس،

غابةُ الأنثى

     قالت الأفعى لصغارها: رداؤكم النعومة وأنيابكم الموت، لا تثقوا بغير طعم السم، وبدلوا الجلد