الديكتاتور الطيب

لم يكن للفتى ظهر أو سند حين طرق بابه، كان الوقت ثقيلاً على قلب الحالم بمدينة حاضنة، وبصحف تفتح أبوابها لمن قال اختبروني، غير أن الحالم تعثر في أول خطوة، لم يكن ما تحت أقدامه أرضاً طيبة ينبت منها زرع وثمر، كان الإسفلت سرير خطواته، وسرير نومه، والموهبة محض جنون إذا لم يكن لصاحبها نسب وحسب، وعز وجاه.
قال الفتى لصاحبه: كيف أدخل صحيفة يسألني حراسها: من أنت؟ من تقصد؟ وهل لديك موعد، أم أنك واحد واهم؟ وكان واحداً غير واهم، لكن ما ظنه أبواباً مفتوحة رأى أقفالها فوقع قلبه، وما ظنهم كباراً يمدون الأذرع لمن سعى وطلب الفرصة رآى أذرعهم قضباناً وسدوداً، رأى أهرامات تنطق وتسخر من سذاجة ما أخذته إليه الظنون.
 قال الفتى لصاحبه: ليس لي من حيلة غير أن أطرق باب العون والنجدة، سأكتب لرجل يكتب عن طلاب الغوث في مرض أو فقر. فقال صاحب الفتى: لكنك لا تشكو من علة أو عوز. فأدار الفتى رأسه ليداري ضعفاً ودمعاً في عينيه، وهمس كأنما لا يريد لصاحبه أن يسمع: أنا بلا ظهر أو سند، وهل بعد ذلك علة أو عوز؟.
قال الفتى في رسالته: ” جئت من قرى بعيدة، وطرقت أبواباً لا تفتح إلا بأسماء وجهاء أجهل أبوابهم، جئت باحثاً عن نافذة فلم أجد ثقب إبرة، قرأتُ فظننتُ أن الرغبة تكفي، والموهبة قطار، والحماس تذكرة ومقعد، فتقطعت بي الطرق، ولا باب غير بابك- بعد الله – ألتمسُ، لا أريد دواء أو مالاً، أريدُ فرصة واختباراً، فإذا نجحتُ اطمئن قلب أبي، وإذا فشلتُ تحررتُ من نقمتي وغضبي”.
كان الوقتُ شتاءً، ومعطف الفتى لم يحمه من رعشة القلق أياماً طوالاً، حتى جاءه الرد:” كن جاهزاً مساء الاثنين، العاشرة موعدك”. وكانت العاشرة موعداً وبداية، مفتتحاً ومقعداً في قطار تمتد وتتعرج قضبانه من بلد إلى بلد. كان المعلم مانح الفرص يشدُّ على الفتى، يؤنبه على ما صغر من الأخطاء، ولا يؤنب غيره على كبائرها، ويوقفه بالساعات كمذنبٍ ، فلا يجرؤ الفتى أن يحرك يداً أو ساقاً، يبتلع ريقه خائفاً أن يسمع معلمه صوت جفاف حلقه، يقول مانح الفرص للفتى الموقوف بجريمته: كيف فاتك العنوان المغاير؟ كيف استسهلت الأمر، ومر يومك من دون فكرة أو مغامرة؟ اذهب، اخرج ولا تعد إلا بأفكار عشرة، واحذر أن تكون أفكار واجب ومراوغة، احذر أن تكون فصل تكرار ونسخ، انظر كيف يفكر الناس وامض في طريق غير طريقهم “.
هل كان مانح الفرص، معلم الفتى، جنرال حرب؟ ديكتاتوراً يخفي طيبته خلف وجه متجهم، وعينين حادتين لهما صوت وسوط؟ هل حين يمنح الفرص يضع تلاميذه في أفران يوقد نارها بالتأنيب والغضب حتى لا يهدأ قلق أرواحهم، حتى لا تتشابه أقلامهم وتتكرر؟ ولماذا لا تكف يده عن ضرب جياد العربة؟ لماذا لا يقول لمن اصطفاهم: استريحوا قليلاً؟.
لم يسترح أحد معه، ولم يسترح أحد بعده، لأن قسوته محبة، ووقع خطواته في الممر إعلان حرب، وعلى من يسمعها أن يشد خوذته، ويجهز نفسه لقتال الفشل والعادة والتكرار.
لم يسترح أحد معه، ولم يسترح أحد بعده،  لأن المعلم كان يبني ويشكل، يضع على الروح بصمة بعد أخرى، يغضب مثل أب، ويجهر بالصوت مثل أب، ولا يظهر المحبة وإن ملأت قلبه، سنوات يركض فيها الفتى أمام معلمه، سنوات وهو يقول: متى يرضى هذا الذي لا يرضى بشيء؟.
الآن يتذكر الفتى ويخاف، فلا يعاود التذكر كيلا يخاف، الآن  كأن في غيبة الموت لا يزال مانح الفرص يطلُّ على صاحبنا، ويلقى في قلبه رعشة الخوف، يراقبه في كل كلمة أو سطر، ويلهب ظهر الجياد بالسوط، فلا تقف العربة عند حد أو عتبة. الآن يتذكر الفتى معلمه، ويهرب من ارتعاشة كلما رغب أن يقرأ الفاتحة على روحه، كلما أراد أن ينطق اسمه. لكن الفتى  بين الحين والآخر يغالب رهبة الخوف، يهمس من الوضع واقفاً: رحم الله عبد الوهاب مطاوع..
مقال كاريكاتيزما – مجلة الصدى – 2011

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

زمن المهيار الدمشقي

المقالة التالية

سيدة الحزن الجميل

اخر المقالات من تحت ظلال الآلهة

سارقُ النار

لا لغة تقدر أن تكون الريح إذا شاءت أن تصف الريح إلا إذا كان كاتبها عاصفة،

العبقري

  كان غبار القرى لا يزال رائحة قميصه حين كانت تتكرر مصادفات المصعد في المبنى الزجاجي،

ما أجمل ضحاياك

قبله هل كان الشعر يمشي على الأرض؟ قبله لم يكن للشعر قدمان، كان له أجنحة لا

من يكره فيروز؟

  أنا أكره فيروز طاوعه لسانه وقلبه مرة ونطق بها، تورط في غضبة الغيرة، ولم يكن