الحصار الأبيض

قلت لا أحب هذه الأماكن
أردت بداية أن أقدم عذرا مقبولاً لهذا الاختناق الذي يصيبني كلما دخلت مركزاً طبياً أو عيادة أو مستشفى بصرف النظر عن تباين التجهيزات والنظافة ووجوه الممرضات الحسناوات، ثمة ضيق يطبق على صدري، والملل يزحف كابوساً ثقيلاً، والدقائق مربوطة بجبل ضخم فلا يدور عقرب الساعة إلا قليلاً كحركة جسد متهالك تكاد قواه أن تخور


قلت لا أحب هذه الأماكن
لكنني طوعاً وحباً وجدتني مرافقاً لمريض عزيز، أعلق بصري بكيس المحلول الذي تعذبني قطراته البطيئة، لحظة وتتدلى القطرة ثم لحظة وتمتد في شفافيتها إلى أسفل، يضعف آخرها مع ثقل رأسها لتهبط وتتبعها أخرى في التسلسل البطيء ذاته، وأنا مثل الأبله أحدق متسائلاً، أحصي القطرات كمن يحصي أنفاسه، وحين أفرح بالنهاية والخلاص وأبتهج لمشهد الفراغ في جوف كيس المحلول البلاستيكي، تأتي الممرضة بشعرها القصير المرتب بعناية وتضع كيسا آخر.


قلت لا أحب هذه الأماكن
لكنني طوعاً دخلتها فوجدتني محاصراً برائحة سائل التنظيف النفاذ الذي يفوح من الطرقات والعنابر، محاصراً بالإيماءات والابتسامات الباردة المقتضبة التي تختصر عبارات الترحيب والوداع في الدخول والخروج، محاصراً بالهبوط والصعود في مصعد ضخم مجهز لعربة المرضى والطوارئ، محاصراً بالأبيض الذي تلف به الممرضات أجسادهن، بالأبيض على الجدران، بالأبيض على السرير الغريب الذي يعلو ويهبط ويتدور ويلف بضغطة زر واحدة، محاصراً بأبيض الأكواب والستائر، بطلب كوب شاي أو قهوة مصنوعة في غرف لها الرائحة النفاذة ذاتها، تشربها مرغماً في كوب بلاستيكي، فيخيل إلي أنني أحتسي المحلول البطيء المتثاقل.


قلت لا أحب هذه الأماكن
قلتها منذ زمن بعيد حين قادني الحب والواجب إلى رفقة جدي يوم رقد على سريره في مستشفى جامعي، فبقيت إلى جواره شاهداً على الكبير المهاب الذي هده المرض والألم، شاهداً على جبل يتلوى، فأبكي صامتاً ضعفه الذي لم أعرفه، ذلك الكبير الصعب، ذلك القاسي العنيد، ها أنا أشهد زوال جبروته وأرقب في عينيه ما لم أكن أتوقعه من الموت


قلت لا أحب هذه الأماكن
لا أحب اللافتات المعلقة في الطرقات عن “الوقاية خير من العلاج”، لا أحب الحاملات أجهزة الضغط والمسرعات بالعربات باتجاه الغرف البعيدة، لا أحب العناوين المخيفة: غرفة الطوارئ، غرفة العناية المركزة، غرفة التحاليل، غرفة العمليات.
لا أحب الذهاب بقدمي إلى أمكنة الغياب والتيه، لا أحب السؤال عن الصحة والأحوال، وآخر موعد لحبوب المسكن، ومقدار الألم عند النوم والحركة، لا أحب حياد الأطباء حين تفسرلهم الوجع فلا يحركون ساكناً غير طمأنة باردة قادمة من بطون المراجع والمختبرات، لا أحب حالة المتعبين في غرف الاستقبال حين تلمح في عيونهم الخوف مما سيقال، لا أحب المدى المفتوح على الفقد والخسارة، لا أحب الحارس المتجهم على الباب الأمامي والممرضة الخائفة على ظلال عينيها، لا أحب حركة يديها حين تغرس الإبرة في الوريد، كأنما لا شيء جديد، لا شيء لا تعرفه، لا شيء يدعوها لأن تقول لك: أنت المريض الوحيد العنيد.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

عينان مظلمتان على جسد مهيب

المقالة التالية

الجدران المائلة

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت