وقفت متحفزاً أمام النافذة راغباً في القفز من الطابق الحادي عشر
لم تكن تلك رغبة في الانتحار -والعياذ بالله- لكنني أحسست فجأة بأن لجسدي أجنحة، وأن بإمكاني بالفعل أن أقفز في الهواء من الطابق الحادي عشر دون أن أقع على الأرض محطماً
نظرت إلى الأفق البعيد، تحسست ذراعيّ فلم أجد فيهما ريشاً، لم يكن هناك جناحان، فلماذا أشعر في أعماقي بأنني صرت في خفة الطائر وأن في مقدوري أن أحلّق عالياً على قمم البنايات والأبراج؟
تراجعت قليلاً إلى الوراء..
وبحثت داخلي عن الإجابة، عن هذه الرغبة المجنونة في الطيران، وتذكرت ريتشارد جير في فيلمه الجميل “مستر جونس”، ذلك الدور الذي هزني حين شاهدته يجسده بشاعرية كشخص مختلف مسكون بطفولة وحلم في الطيران، وحين ضاق به من حوله وضعوه في مستشفى الأمراض العقلية، ولم يتركوه إلا حين ملأوا معدته وشرايينه بالمهدئات.. كأن الطبيعي أن يكون الإنسان مكتئباً ومريضاً، ولم تنقذه إلا طبيبة اكتشفت طفولة روحه وحلمه الشاعري. أعود لأقول إنني تراجعت عن فكرة القفز من الطابق الحادي عشر، واكتفيت بأن حررت روحي من غرفة الجسد الضيقة، وتركتها تجرب طيرانها ونشوتها بملامسة قلب الريح خارج البيت. ما الذي يجعلنا نعيش حالة كهذه؟ ما الذي يجعلنا هكذا أطفالاً رائعين، وطيوراً متخيلة، وأرواحاً حرة في البهجة والتأمل؟ أصارحكم•• أنني لم أفز -كعادتي- بجائزة مالية، ولم أحصل على ترقية جديدة، ولم يضع أحد اسمي على قائمة التكريم، ولم أقتنص موعداً على العشاء مع امرأة جميلة، كل ما في الأمر يا أصدقائي هو أنني شاهدت ثلاثة أفلام في يوم واحد. في يوم عطلتي قررت أن أجعله يوماً سينمائياً، واخترت آخر ثلاثة أفلام أضفتها مؤخراً إلى مكتبتي. الفيلم الأول “السعي وراء السعادة”، والثاني “السحلية”، والثالث “ألوان الفردوس”. في فيلم “السعي وراء السعادة” المأخوذ عن قصة حقيقية لمليونير أمريكي أسود “كريس غاردنر”، يقدّم الممثل “ويل سميث”دور عمره وتحفته السينمائية التي تضع قدميه على باب مرحلة جديدة في حياته كممثل يحسن اختيار أدواره بعيداً عن الأكشن الذي اشتهر به، ويل سميث في فيلم “البحث عن السعادة” يشدك من قلبك لتتابع رحلته في الصعود كرجل عصامي محاصر بالفقر والعائلة المدمرة، والظروف التي تقيده إلى واقع قاس وضاغط، لكن هذه القيود لا تكبل روحه وإرادته فيحفر في الصخر متحدياً ذاته، وفقره، وقسوة أحواله، ومتجاوزاً محنته العاطفية بعد أن هجرته زوجته تاركة له طفلاً صغيراً، وحلماً أكبر من أن يفهمه غيره. أيام وشهور في اختبارات مؤلمة.. ليال طويلة يقف فيها مع ابنه في طابور المشردين بحثاً عن مأوى.. وحين لا يجد مكاناً ينام فيه يلجأ إلى دورة مياه في محطة المترو ويغلقها من الداخل محتضناً طفله النائم. قد يبدو الفيلم كابوساً مظلماً، لكنه الكابوس الذي يمكن وصفه بالجميل، والكوابيس الجميلة هي التي نتعلم أن نتجاوزها وأن نخرج منها أقوياء..الكوابيس الجميلة هي التي تصهر حقيقتنا وتكشف عن معدننا، وتضع أقدامنا على طريق الحكمة، والنجاح. أنت هنا لا تتابع فيلماً يمثله ويل سميث ويخرجه الإيطالي غابرييل موتشينو، بل تتابع حياة إنسان عصامي، تتابع رجلاً يواجه قوة ظروف وقوة واقع لا يرحم، أنت هنا -أمام الفيلم- لا تشعر بأنك ترى فيلماً، تنسى أن ويل سميث يمثل، وأن هناك مخرجاً ومصوراً وطاقم عمل وكاميرات، فقط تجد نفسك صديقاً للبطل وطفله، فتسقط بينك وبين الفيلم حقيقة أنه فيلم. وحين يجد البطل في آخر نفق حياته المعتم أول خيط للضوء تتنفس معه الصعداء.. وعندما ينتهي الفيلم حاول أن تتحسس ذراعيك لترى إن كانتا قد صارتا جناحين.. لكن لا تفكر أبداً في الوقوف أمام النافذة متحفزاً للقفز.