الإنساني.. بين الخير والشر

كيف نكون إنسانيين كما ينبغي؟
كيف ننتصر لإنسانيتنا دون أن نتورط في القياس الفاسد، ونسلك الطرق ذاتها التي يسلكها غيرنا؟
كيف نرتفع فوق أحقادنا وضغائننا ونغسل أرواحنا من كل خبيث، صغيراً كان أم كبيراً؟ ولماذا لا نقاوم المشاعر السوداء حين تبدأ في زحفها داخل صدورنا؟ أليس الجهاد الأكبر -دينياً- هو جهاد النفس؟ ولماذا نستسهل المضي وراء شياطيننا، دون أن نبادر حتى بالتفكير والسؤال: لماذا وإلى متى؟
أحياناً يبدو لي علم الأخلاق عاجزاً عن تفسير الكثير من المعايير والمفاهيم والسلوكيات التي يمارسها الإنسان في ساعات يومه خلال اتصاله مع الآخرين من حوله، وإذا كان هذا العلم قد اهتم بدراسة وتحليل العديد من القضايا ومن بينها: معايير الصواب والخطأ، الخير والشر، العدل والظلم، الجيد والرديء، القيم الأخلاقية، الأنانية والإيثارية النفعية، فإننا غالباً ما نجد درجات رمادية مضللة بين الأسود والأبيض في كل قضية من هذه القضايا.

إن الشر على سبيل المثال الذي يبدو لأول وهلة جلياً لا لبس فيه، يمكن أن نجد له تفاسير عدة لدى جماعات مختلفة في المجتمع الواحد، وفي بيئات عدة تتفاوت فيما بينها في نظرتها للشر بل وفي تبريره أحياناً بدوافع مرتبطة بالإرث القبلي والثقافي، كما أن الخير ذاته يصبح في مثل هذه المعايير مؤرجحاً في نسبية تقلل من قدر البياض الذي يجب أن يوصف به، وليس هذا فحسب، بل إن فعل الخير أصبح مرهوناً بالقلق والحذر، وقديماً كان سقراط وأفلاطون يقولان إن الإنسان يفعل الخير دائماً، بمعنى أنه يفعل ما يبدو له خيراً نافعاً حسب درجة وعيه وذكائه في لحظة الفعل، لكن من ناحية أخرى إذا افترضنا أن متسولاً أوقف أحدنا في شارع في مدينة عربية من المدن العامرة بالمتسولين، فإن الفعل التلقائي والنزعة الإنسانية للخير والمساعدة يحتمان علينا أن نعطيه ما نستطيع، هكذا دون مراجعة أو تردد، في حين أن ذلك لم يعد تلقائياً وإنسانياً مطلقاً، لأننا نجد أنفسنا تحت وطأة الحذر من أن يكون هذا المتسول نصاباً يبتكر عاهة صناعية، أو أنه صاحب ثروة سرية كأولئك المتسولين الذين تحدثنا عنهم الصحافة، وعن ثرواتهم الخرافية، وحين نمضي غير عابئين بتوسلات الشحاذ ودعواته بالصحة والعافية، لا نشعر بأننا قصرنا في فعل الخير، بل إن كل واحد منا سيجد لنفسه تبريراً يجعله يلقي اللوم على النصابين من الشحاذين الذين أفسدونا ودفعونا إلى تجاهل مشهد إنساني ما كان لنا أن نتجاهله لولا أن المعايير اختلفت. كيف نكون إنسانيين إذن في ظل معايير غير إنسانية؟ أعتقد أن الخير هو الأصل، وهو أن نكون خيرين، وأن نفترض الطيبة والصدق فيمن حولنا، وألا نركن إلى المحاذير عندما نبادر به، ربما لأن هذا التداخل بين المناطق الرمادية في نظرتنا للأشياء قد يقودنا -دون أن ندري- إلى الجانب المظلم، وكما يقول المثل: “افعل الخير وارمه في البحر”، فمثل هذا الأمر كفيل بأن يحفظ لنا توازننا الداخلي، وإذا كان الشرير ينتصر للخداع والمراوغة والخبث والمؤامرات والطعن في الظهر، فعلينا أن نقبض على إنسانيتنا، وأن ننتصر لها حتى نكون جديرين بالإنسان فينا، ونكون طيبين بدرجة ما، وحتى تكون الحياة ممكنة بأقل قدر من المرارة والأسف.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

وداعاً صديقتي الخائنة

Default thumbnail
المقالة التالية

ما قالته ذريما

اخر المقالات من سيرة الحنين والفوضى

THE VOICE OF ENIGMA

بالأمس قررت أن أكون وحيداً مع صوت “إنيجما”، قررت أن أكون مخلصاً لها لمرة واحدة، وفي