اعترافات البارمان

يوماً ما سيقول لكِ البارمان: كان لدينا رجلٌ حزينٌ، قتلته امرأة تشبهكِ إلا قليلاً، لا تبحثي كثيراً في المدن والمزارع والبارات، مثله لا يجيء إلا كل مائة عام، لأن المآسي العظيمة نادرة، المآسي التي تعبر دماءنا بالحب لا مجد لها إلا في الأعالي، هناك حيث يسبح العاشقون بجروحهم في أنهار من الحزن والملح

يوماً ما سيقول لكِ البارمان: الرجل الذي تقصدين، قال كلاماً كثيراً ليلة موته، جلس هناك على المقعد الأخير، وطلب أغنية غريبة لم تعرف العازفة لها لحناً، كأنها ترنيمة أو صلاة. لم يفهمه أحدٌ سواى، قلت له: هذه كأسكَ من الشيفاز والكولا، فما حاجتكَ لأغنيةٍ، فأمسكَ بثوبي وبكى، سألني أن أدله على امرأةٍ تشبهكِ إلا قليلاً، أوعلى قبر قريب، غير أني تركته كالببغاء، هربتُ من طيوره الميتة،  كان متأهباً ليصبح حكاية، فتركَ على مدخل البار دمعةً عميقةً، وفي آخر الليل وضع وردةً في كفه اليمنى وماتْ. لم أر أحداً مثله يودع كفه كأنها بيت وعائلة

يوماً ما سيقول لكِ البارمان: عيناه، هل رأيتِ عينيه لحظة يقول: جميلة؟، كأن الزبائن أطفالٌ حول طاولته، يتركون مقاعدهم ليصبحوا غيمة فوق رأسه، وإذا روى عن موجة تتكلم بلسان امرأة، قرعوا الكؤوس في صحة البحر. كنا نحبه مثل قبطان خاسر، يشير إلى زجاجات الخمر كسفن غارقة، ويقول: اعطني هذه.. وهذه.. صب لي كاساً من تلك، واصنع لي خليطاً من الماء والرمليوماً ما سيقول لكِ البارمان: عشرون عاماً وأنا خلف هذا البار، رأيت رجالاً كثيرين، طيبين وأشرارا، سيقولون لك كلاماً كثيراً، ويقدمون لك الكأس مثل نبلاء القصور، لكنهم لا يبكون في السر حين تتكسر عيناك كجرة ماء، لا ينطقون اسمك بشغف حين تتقطع أنفاسك خلف أغنية (الأماكن)، فلا تتوقعي أن يفاجئوك بالتخاطر عن بعد، أو يعملوا خلفك كجامعي ضحكات. الرجل الذي تقصدين تميمة هذا البار، لأن صوته نائم في قلب البيانو، دمعته المسجاة تغني بين الطاولات

يوماً ما سيقول لكِ البارمان: الرجلُ الذي تقصدين لم يفهمه أحد سواى، لذا كنت أكثر من الثلج والكولا، لأحفظ له بضع خطوات إلى البيت، وأعيده سالماً إلى الكوابيس والموتى،  كنت أبكي كلما رسم سفينة في كفه، وأحصي خلفه مئات الكؤوس التي شربها، الكؤوس التي كانت تتجمع في دمه كبحر عظيم، يطلب الكأس بعد الأخرى، حتى إذا ذهبت به الخمر عدل من هيئته، وابتسم كقبطان واعد امرأة في شاطيء بعيد

يوماً ما سيقول لكِ البارمان: الرجلُ الذي تقصدين روى لي مرة إن أباه لم يمت، يجيئه كل ليلة ممسكاً بعصاه، كان يلوح أمامي بإصبعه مقلداً غضبة الأب في الحلم،  ثم سرعان ما يتجهم وهو يسأل: هل مات أبي دون أن أراه؟

 

قال لي آخر مرة
إنه احتضن جميلة مائة مرة
في حلم واحد
وشدَّ عليها كيلا تضيع
ثم سرعان ما تجهم وهو يسألُ:
على أي جهةٍ تنامُ الآن؟

 

يوماً ما سيقول لكِ البارمان:
يا سيدتي ..
أيُّ امرأةٍ تشبهكِ إلا قليلاً
ابتكرتْ له  قدراً أعمى
حفرتْ قبراً خلف ظهره؟
منْ حرضَ عليه الأرضَ
ووصلَ رئتيه بالتراب؟
من سرق ضوءه لأجلِ سريرٍ بلا فاكهةٍ؟
ولماذا حين عجزتْ أصابعه
تقاطرتْ خلفه الذئاب؟

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

أينَّ قميصها لأستردَّ عافيتي؟

المقالة التالية

ما رأيته ناقصاً وأنا ذاهبٌ إلى كمالي

اخر المقالات من عاطفة قاسية تلوّح بالعصا

عِتـــابُ الجِيم

في البدءِ أقولُ: أحبكِ، وأنا أكره روحي المختبئة في الظلِ كطفلةٍ مذنبةٍ، روحي التي ورطتني في

كمالٌ ناقصٌ

يا جميلةُ راهني على اسمٍ آخر أنا مجردُ كمالٍ ناقصٍ أبارككِ في موتي أُحدثُ عنكِ الترابَ

دعاء غير مستجاب

لابد أنني حزينٌ للغايةِ لأتحدث بمرارةٍ عن القدرِ أُعلقُ فوق حبالهِ سفينتي الغارقة لذلكَ سأنتظرُ حتى