يا إخوتي، يا أبناء أبي وأمي، أيها الطيبون كما شجر الصفصاف، المعلقة قلوبهم وأبصارهم بالذي شرد وغاب، بالذي أخذ من جيب وقلب أبيهم أكثر مما أخذوا، بالذي ترك في عيني أمهم حنيناً لا ينام، بالذي وضع الريح والقلق على مقبض الباب العتيق، بالذي ينادونه في الفرح والحزن” أخي “، ويناديهم في الغياب ” إخوتي “، لكنه لا يعرف كيف يعيده الطريق؟ كيف يطفئ جنون الرحيل في دمه؟ وكيف يطرق الباب عليهم فجراً دون أن يسألوا في صمت وحريق:
– هل الذي عاد أخونا القديم أَمْ عابر سبيل ؟
أيها الأصدقاء القدامى، يا شركاء لعب الطفولة وشقاوة الشوارع والقطارات، ومقاعد المدارس الضيقة، يا صحبة العناد والخصام على الطباشير الملونة والكراسات المسطرة، والأقلام المسكونة بالحبر الأسود والأحمر، يا رفاق الإجازات والأعياد ولعب الكرة في الحقول بعد الحصاد، يا من أذكر أسماءهم الأولى، يا كل من يذكرون اسمي وأجهل ملامحهم البعيدة.
يا رفقاء سنوات السؤال والتشكك، يا أغنياء الأحلام فيما كانت تفرغ الجيوب ويمتلئ العقل والذاكرة، يا هؤلاء.. يا ساكني الحجرات والشقق الخالية إلا من سرير وتلال الأوراق والأمنيات، يا من تعبت أقدامهم من قطع المسافات الطويلة ساعة تبخل اليد على ركوب السيارات والباصات ولا تبخل أمام أفيشات فيلم وعنوان كتاب، يا من كنتم تستندون إلى الأمل المراوغ، تثرثرون على المقاهي الفقيرة عن قصيدة أو رواية أو خيانة صديق لصديق، يا رفقائي في أول الطريق..
أيها المارة في المدينة الكبيرة، أيها الباعة النائمون من تعب على عرباتهم الخشبية المتهالكة، يا ماسحي الأحذية، يا بائعي الجرائد في تقاطعات الشوارع والنواصي، يا صبي المقهى الفقير الملوّن ثوبه بالقهوة والعصائر، يا سائقي عربات التاكسي لحظة يضيق الصدر بالبطء والزحام، أنتم يا جنود الحراسة الواقفين أمام الصناديق الخشبية زائغي العيون، تطاردون رائحة البيت والأهل، يا كل من رأيتهم ومددت الخطى أمامهم.. وبجوارهم ولم ألق عليهم السلام.
أيتها النساء اللاتي عبرن القلب والذاكرة، يا من مددن طرف الكلام وقطعته، يا من طرحن الأسئلة ولم أجب عنها، يا من تجاهلت عطرهن لحظة ملأ العطر المكان، يا من مررت عليهن دون أن تطرف العين مأخوذاً بالهيئة والحضور، أيتها الشاكيات في كبرياء وصمت من سذاجة القروي، من بئر أسراره العميقة، من جبال الهم في عينيه، يا عابرات الروح دون أثر، يا حاملات العتاب الذي لم أسمعه، يا شاكيات إلى البحر من رجلٍ غامضٍ تقيده الأرض بالغياب والسؤال، أنتن أيتها الوردات اليابسات في قلبي.
أيها القرويون الحزانى، يا أبناء الأرض والتعب والانتظار، أيها الجالسون القرفصاء على التراب في مداخل الدروب الصغيرة، يا ساكني بيوت الطين، أيها العابرون على ظهور الدواب ساعة الظهيرة، يا هؤلاء المتعبون بابتساماتهم القليلة، أيها الموجوعون بالفقر والمرض، يا كل من مررت عليهم صامتاً كالجدار، يا من تساءلوا عن حامل الحقيبة والجريدة فلم أستدر للسلام أو الكلام.
يا هؤلاء
وأولئك
يا كل من تركت في قلوبهم مرارة وسؤالاً.. يليق بي الآن الاعتذار.
اعتذار عن ذنوب منسية
اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت