اغفري لي حين تستيقظين على الحنين فلا تجدين مني غير الحكايات، غير (كان) وماضيها الناقص، كان يحبو هنا، كان يبكي هنا، كان ينام هنا، وكان.. وكان. وكان. يا أماه، كبرت بعيداً عن عينيك، كبرت حتى غادرتني طفولتي، وغادرني المكان الأول، واللعب الأول، والسذاجة الأولى.
كبرت حتى امتلأت عيناي بالغبار والوجوه الزائفة، فاغفري لي إذا قسوت عليك دون قصد، اغفري لي حين تعلقين قلبك على مدخل البيت في انتظار من لا يجيء، وحين تضعين اليد على الخد، ويجري ملح دموعك كمطر ثقيل:”فينك يا غالي”؟! ذهب الغالي يا أماه، واسترخصته الذئاب، استرخصته الوحدة والمواجع والحسرات، وأخذته الهزائم بلا مقابل.
اعذريني يا أماه، يذهب عام ويجيء عام،
وكلما قلت: “غداً أقف أمام الباب”،
سقطت قدماي في الغياب.
(2)
من غيركِ يا جميلة ينزل في القلب منزلة الحبيبة والأم والإخوة، ويكون لها العمر والبيت؟ تعالي إليّ، لا.. أنا الذي سيقطع الطريق إليك بألف.. ألف اعتذار، سأقول سامحي سيئ الحظ، كلما وعدتك بالبهجة غرقت قواربي، كلما رسمت لك وردة خاصمتني بساتين الأرض، وجفت أصابعي، سامحيني إذا بكيت على كتفيك وتعلقت بطرف ثيابك كطفلٍ صغير، سامحيني حين تعصف الريح في دمي، ويلفني الحزن، فلا أجد سوى اسمك، وصوتك، وحنان عينيك، أصرخ: خذيني، أريحي القلب من أسئلة لا تنام، ومن تعب الخطوات الضائعة، سامحيني..حين يأخذني الشرود إلى الصمت وألقي بالكلام في البحر، وأنت تراقبين شجراً يموت في عيني، فإذا تركت لساني على مقعد مجهول.. سامحيني، وإذا خاطبتك بالعتاب.. سامحيني، وإذا ثقلت عليك طفولتي.. سامحيني، وإذا شكوت لك من يوم لم أرك فيه.. سامحيني، وإذا سألت الناس في الطرقات: هل رأى أحدكم أغنية تمرّ من هنا؟ سامحيني، لأنني لا أغفل عنكِ، ولا أكتفي منكِ، ولا أعتذر لأحد – بعد أمي- سواكِ.
(3)
أنتَ.. يا أنا، يا طفلي المحاصر البعيد، في غزة المحاصرة ، يا من تكبر سنة بعد سنة، دون أن أقلم أظافرك، دون أن أرى كيف تعبر الشارع إلى البيت، وكيف تختار الحلوى، وعلى أي جانب تنام؟ صوتك على الهاتف أغنية..وأنا أخرسُ، غنها ثانية، قلها: “بابا”، نظف رئتي من الهواء القديم، اضحك في حصارك، اقترح اسمك حلماً، واسألني في كل مرة عن هداياك.
– ناصر.. هل تريد ثياباً جديدة؟
أعرف، ستقول في خجلٍ كملاك:
-“أريد طائرة.. وسفينة.. وسيارة”.
كأنك يا صغيري البعيد تريد أجنحة،
وتحلم بكتفيّ.