اعتذارات لمن يستحقها

(1)
وهل تظنين أنني سأبدأ بغيركِ؟ هل تظنين يا أماه أنني سأقدم أول اعتذاراتي لأحد سواكِ؟ تعالي إليّ، لا.. أنا الذي سأجيء إليك، أنا الذي سأقطع المسافات جرياً، باكياً، وأجر خلفي جبال الأسف والندم، فاغفري لي جنوني بالسفر والغياب، جنوني بالحبر والورق، وتعلق قلبي بالمستحيلات.
اغفري لي حين تستيقظين على الحنين فلا تجدين مني غير الحكايات، غير (كان) وماضيها الناقص، كان يحبو هنا، كان يبكي هنا، كان ينام هنا، وكان.. وكان. وكان. يا أماه، كبرت بعيداً عن عينيك، كبرت حتى غادرتني طفولتي، وغادرني المكان الأول، واللعب الأول، والسذاجة الأولى.

كبرت حتى امتلأت عيناي بالغبار والوجوه الزائفة، فاغفري لي إذا قسوت عليك دون قصد، اغفري لي حين تعلقين قلبك على مدخل البيت في انتظار من لا يجيء، وحين تضعين اليد على الخد، ويجري ملح دموعك كمطر ثقيل:”فينك يا غالي”؟! ذهب الغالي يا أماه، واسترخصته الذئاب، استرخصته الوحدة والمواجع والحسرات، وأخذته الهزائم بلا مقابل.
اعذريني يا أماه، يذهب عام ويجيء عام،
وكلما قلت: “غداً أقف أمام الباب”،
سقطت قدماي في الغياب.
(2)
من غيركِ يا جميلة ينزل في القلب منزلة الحبيبة والأم والإخوة، ويكون لها العمر والبيت؟ تعالي إليّ، لا.. أنا الذي سيقطع الطريق إليك بألف.. ألف اعتذار، سأقول سامحي سيئ الحظ، كلما وعدتك بالبهجة غرقت قواربي، كلما رسمت لك وردة خاصمتني بساتين الأرض، وجفت أصابعي، سامحيني إذا بكيت على كتفيك وتعلقت بطرف ثيابك كطفلٍ صغير، سامحيني حين تعصف الريح في دمي، ويلفني الحزن، فلا أجد سوى اسمك، وصوتك، وحنان عينيك، أصرخ: خذيني، أريحي القلب من أسئلة لا تنام، ومن تعب الخطوات الضائعة، سامحيني..حين يأخذني الشرود إلى الصمت وألقي بالكلام في البحر، وأنت تراقبين شجراً يموت في عيني، فإذا تركت لساني على مقعد مجهول.. سامحيني، وإذا خاطبتك بالعتاب.. سامحيني، وإذا ثقلت عليك طفولتي.. سامحيني، وإذا شكوت لك من يوم لم أرك فيه.. سامحيني، وإذا سألت الناس في الطرقات: هل رأى أحدكم أغنية تمرّ من هنا؟ سامحيني، لأنني لا أغفل عنكِ، ولا أكتفي منكِ، ولا أعتذر لأحد – بعد أمي- سواكِ.
(3)
أنتَ.. يا أنا، يا طفلي المحاصر البعيد، في غزة المحاصرة ، يا من تكبر سنة بعد سنة، دون أن أقلم أظافرك، دون أن أرى كيف تعبر الشارع إلى البيت، وكيف تختار الحلوى، وعلى أي جانب تنام؟ صوتك على الهاتف أغنية..وأنا أخرسُ، غنها ثانية، قلها: “بابا”، نظف رئتي من الهواء القديم، اضحك في حصارك، اقترح اسمك حلماً، واسألني في كل مرة عن هداياك.
– ناصر.. هل تريد ثياباً جديدة؟
أعرف، ستقول في خجلٍ كملاك:
-“أريد طائرة.. وسفينة.. وسيارة”.
كأنك يا صغيري البعيد تريد أجنحة،
وتحلم بكتفيّ.

 

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

صائد التفاصيل

Default thumbnail
المقالة التالية

تمام الجحيم

اخر المقالات من تأويل جميلة

في البدء كانت جميلة

في البدء كانت الكلمة، ربما، لكنني أظن أنه في البدء كانت النظرة، وكانت جميلة، كأن ترى

اعتذار الفراشة

أحط بين يديك يا جميلة، لأعتذر عن حماقة صاحبي، جناحاي معطلان، جناحاي ثقيلان بالذنب حتى ترضين،

صائد التفاصيل

  الجحيم في التفاصيل، ربما.. وأولئك الذين يعيشون بذاكرتهم البصرية قد يكونون في لحظة ما أتعس

ليست مجرد امرأة

– اكتب، قل شيئاً، أي شيء، أكمل روايتك اليتيمة، لا تترك رقبتي هكذا دون جوهرة تليق