كتبت لي صديقة ذات يوم رسالة حزينة.. كانت داخلة لتوها في تجربة ربما أثقلت جناحيها، فلم تجد حيلة للطيران سوى الكتابة لشخص ما بعيد لا يراها ولا تراه، فقط أرادته أن يكون شاهداً ومتلقياً دون أن تتوقع منه رداً
قالت الصديقة: ” لطالما تمنيت أن أكون محارة راقدة في جوف محيط عميق، ساكتة في قلب الماء لا تؤرقني التفاصيل الصغيرة، ولا تملأ رأسي الأسئلة السوداء.. “.
أتذكر كلماتها اليوم وأنا أسأل نفسي ومن حولي: لو اخترت أن تكون شيئاً، أو تكون على هيئة ما، ما الذي تود أن تكون عليه؟، كان سؤالاً افتراضياً تورط كثيرون في الإجابة عنه، أول من تلقت السؤال أخذت نفساً عميقاً وألقت نظرة على سقف الحجرة، ثم قالت: أود أن أكون عشبة برية فوق جبل لم يصله أحد، هناك سأكون متوحدة بروحي، عميقة في وحدتي، لا أصدقاء ولا صديقات لي سوى بضع عشبات صغيرة متناثرة، سيكون لي أن أحدق في زرقة السماء بلا نهاية، أنتظر المطر وأحصي النجوم ليلاً، وأنصت في الظلمة دون أن يسرق قلبي أحد، دون أن أحمل ضغينة لأحد، دون أن أبكي حزناً على أحد، سأكون عشبة جبلية طيبة مكتفية بذاتها، وشاهدة على براءتها الجميلة.
صمتت التي تمنت أن تكون عشبة على قمة جبل، وتحدث آخر فقال: كنت أود أن أكون نمراً يركض في غابة، يسابق الريح، ويقف على حافة صخرة محدثاً الأفق عن روحه، لا يكترث بالليل حين يلقي بظلاله الثقيلة على المكان، ولا يخاف إلا قليلاً حين تخور قواه، ويغلبه النعاس دون أن يلتمس الحيطة والحذر، وحين يقتل يبحث عن حياة.
وقال ثالث: كنت أرغب في أن أكون جداراً في بيت قديم، أرى وأسمع ولا أتكلم، أحفظ الوجوه التي تعبر أمامي، أضحك في سري وأنا أرقب المؤامرات الصغيرة، وأنا أشاهد الأحقاد تكبر في الظلام، تمنيت أن أكون جداراً مسالماً مشيداً من الطين لا من الحديد والأسمنت، ربما في قرية نائية، في مدينة لم تفسدها الخيانات، آه.. لو صرت الجدار الذي لا تهدمه يد، ولا تعبث بوجهه الريح، جدار على صدره صور العائلة ورائحة الذين تركوا أصواتهم في الفضاء.. وغابوا
وقال رابع: كنتُ أحلم أن أكون عصفوراً صغيراً على شجرة، خفيفاً وفي حجم قبضة اليد، يطير ويهبط مسكوناً بحبة قمح، تسكره اللحظة فيغني، وحين يطلق جناحيه ويفردهما لا ينظر خلفه، ضقت أنا بما خلفي، ضقت بالذكريات التي تملأ صدري، أريد أن أصبح حراً، وأن أموت على غفلة، ربما لو كنت عصفوراً لتمنيت أن أموت بحجر طفل فجأة، وأن أسقط في مياه تجري، وأذهب إلى حيث لا جنازة ولا بكاء ولا اسم لمكان.
وقال الخامس الذي كان يتابع مفكراً: كنت أتمنى أن أكون بجناحين، كنت أتمنى أن أطير لا أن أمشي، كنت أتمنى أن أكون صقراً يعبر الأرض والبحر، يجتاز الأمكنة والأزمنة، صقراً مملوءاً بالكبرياء والعزة، عيناه يقظتان وحارتان، وقلبه يتسع كما اتساع المدى الذي يطل عليه.
وقالت السادسة: وددت يوماً أن أكون طاقة دون جسد، طاقة تتحرك، تذهب أينما تريد، طاقة لا تحمل سؤالاً يؤرق ليلها، طاقة مؤمنة بالله، بالخير، لا أحتاج وقتها إلى البحث عن الاكتمال، ربما أكون ناقصة شيئاً، ناقصة لحاجة، لكنني أبداً لن أكون ناقصة للحب، لو أنني طاقة خلقها الله في هذه الحياة سأكون آمنة من الخوف، سأكون ربما قادرة على السفر إلى الشمس، إلى القمر البعيد، إلى نجمة ما، وربما لو احتجت يوماً إلى ارتداء جسد، إلى أن أكون على هيئة لاخترت أن تكون هيئتي الماء، قطرة في بحر لا تموت.
وقال السابع: أكون أي شيء إلا أن أكون ثعباناً، لا أود أن أكون صانع الرعب والسم، لا أود أن أزحف في الظلام خبيثاً وقاتلاً، لا أرغب في التسلل واقتناص الفرص تاركاً لضحاياي الألم والموت، أود أن أكون بأقل قدر من الشر والكراهية، لكنني لا أحلم بشيطان في ثوب ثعبان.
وقالت الثامنة: في طفولتي حلمت أنني سلحفاة، تمشي ببطء وتعيش أطول مما يجب، أحتمي بطبقات من الجلد، جسدي بيتي أدخل فيه هاربة من الرعب والخطر، أحصي السنوات بلا حصر، طعامي العشب ونزهتي تحت الشمس والماء، سلحفاة لا تكترث بالوقت لا تحمل في معصمها ساعة، سلحفاة في أرض وسيعة وبعيدة عن الناس، غنائي الصمت، وحاجتي تحت قدمي..
وقالت التاسعة: أود أن أكون نغمة في لحن، نغمة تخرج من فم آلة قلبها الموسيقى، نغمة حزينة تشد القلب من شرايينه وتسحبه خلف ما مضى، أرغب في أن أكون النغمة السوداء، شفافة وجارحة كحد سكين، لا أريدني نغمة فرح تسقط في النسيان، الحزن يبقى كشاهد قبر، وأمنيتي أن أكون صائدة الأرواح وسيدة الذكرى
وقال العاشر: لا أريد أن أكون نملة، هذه الصغيرة التي تتحرك ضعيفة وتموت تحت أقدام العابرين، لا أود أن أكون عقرباً عمياء تتحسس طريقها على التراب والأجساد، لا أريد أن أكون كلباً رغم وفائه، ولا حماراً رغم طيبته، ولا ذبابة أو فأراً، أريد أن أكون أنا كما أنا، طيباً وشريراً، عابساً وفرحاً، ومسكوناً بالأمل والخوف
وقالت الأخيرة: أود أن أكون وردة ولو أنها تموت سريعاً
احتمالات غير ممكنة
اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت