وأذكر أنني تربيت مهنياً على يد الراحل عبد الوهاب مطاوع حين كان نائباً لرئيس تحرير الأهرام ورئيساً لتحرير مجلة الشباب، وكان حين يعطيني موضوعاً لزميل لأراجعه أو أعيد صياغته وتحريره كاملاً يحذرني ألا يعرف صاحب الموضوع، وألا يراه على طاولة مكتبي، أما إذا رأيت أن الموضوع غير صالح للنشر، فعلي أن أعود إلى رئيس التحرير دون أن أحدث المحرر بشيء، وقد بدا لي الأمر في ذلك الوقت قبل 61عاماً وكأنني أمارس عملاً سرياً لم يخل من طرائف حين أجلس في كافتيريا الجريدة لحظة صدور العدد وأستمع إلى زميلي يزهو بموضوعه، ويتباهى بلغته وعناوينه التي لم يغيرها له أحد، وتعلمت يومها أن أكتم مشاعري، وألا أنفجر في وجهه مكذباً إياه ومؤكداً حجم الجهد الذي بذلته في إعادة تحرير موضوعه لينجو من ثلاجة التأجيل أو سلة مهملات رئيس التحرير التي كانت تتسع لعشرات الموضوعات دون أن يجرؤ محرر على السؤال عن مصيرها، لأن القاعدة هي أن يعمل المحررون وأن يقدموا موضوعاتهم وأفكارهم بلا كلل أو ملل، أما النشر فتلك مسؤولية رئيس التحرير ومدير التحرير، ومنذ ذلك الوقت ترسخ في أعماقي يوماً بعد يوم قدر المسؤولية التي يقوم بها المطبخ الصحفي وقدر الصبر والكتمان اللذين يجب أن يتحلى بهما أي عضو في هذا المطبخ، وفي مرحلة لاحقة عملت في مجلة (كل الناس) عضواً في الدسك، وتعلمت من الأستاذ عماد الدين أديب رئيس تحرير (كل الناس) ما يعنيه عضو الدسك، كنا في غرفة على بابها إشارة بعدم دخول المحررين، وإذا حدث واشتكى محرر بسبب تغيير ما لحق بموضوعه في غرفة الدسك، كان الإنصاف للدسك دون غيره، وكان عماد أديب يقول (الدسك الشاطر هو من يشطب أقل)، ولم أعرف معنى هذه العبارة في البداية، لكنني اكتشفتها داخلي حين كنت أشعر بفرح أمام أي موضوع من محرر مبتدئ، فأكاد أطير به بهجة، وأبعث به إلى (الصف) دون أن أغير فيه شيئاً، ولماذا أغير فيه طالما أنه مكتوب بحرفية وذكاء، وعناوينه جميلة ودالة، لماذا أدخل إلى الموضوع متربصاً كصياد يحلم بوقوع فريسة بين يديه، لماذا أمارس دور الناظر وأرفع المسطرة في الهواء لأقول: أنا الناظر؟ أذكر أيضاً في ذلك الوقت أنني عرفت صحفياً يعمل في الدسك المركزي لإحدى الصحف، كان بطبيعته غاضباً من كل شيء، من نفسه، ومن الآخرين، ومن الحياة، كانت لديه رغبة عارمة ودفينة في إعادة تحرير الوقائع من حوله، وكنا نمزح معه ونتهمه بأنه يحلم بتدسيك الناس، فلا أحد يعجبه، ولا شيء يروق له، وكان صاحبنا هذا حين يجلس إلى مكتبه يمارس دور جنرال عسكري فاشل، يمسك بالموضوعات كأنها خطط حرب هزم فيها منذ زمن، يكرهها ويكره أصحابها، ويود لو أنه ألقى بها وبهم في الجحيم، وإذا وجد ـ من سوء حظه ـ موضوعاً جيداً لمحرر متميز، كان غيظه يبلغ سقف الغرفة، ودخان سجائره يفسد علينا الهواء، وكنا توفيراً للنفقات نتوقف عن التدخين ونسحب من الغرفة هواءها المثقل بالتبغ، فماذا يفعل الآن صاحبنا أمام موضوع لا يحتاج منه لضربة قلم؟ ربما لا تصدقون إذا قلت إنه كان يقطع صفحة العناوين وصفحة المقدمة ثم ينقلهما بخطه ليثبت لمن يريد أنه كتب العناوين والمقدمة، وهناك تجربة أبطالها مجموعة من سكرتارية التحرير في إحدى المجلات الكبرى، اتفقوا فيما بينهم وأقنعوا رئيس التحرير ومدير التحرير بأن يحمل الموضوع عند النشر اسم المحرر إضافة إلى اسم عضو الديسك، هكذا على سبيل المثال: (تحقيق: سين ميم ـ أعده للنشر: جيم نون). ولم تستمر هذه التجربة طويلاً لأنها لاقت استهجاناً، ولم تكن شكلاً أو مضموناً صحفياً جديداً، بل كانت رغبة في الظهور من مجموعة شاءت أن تلقي بتواضعها بعيداً على حساب تقاليد وأصول العمل، وبقي أن أقول لكم إن صديقنا “الدسكجي” من شدة غرامه بتصحيح المصحح، وتعديل المعدل، لم يقنع بامرأة لتكون له زوجة، فكلما شاهد واحدة انبرى يتحدث عن أخطاء “وجهها”، فأنفها (مجرور) ويجب أن يكون (منصوباً)، وفمها (مفتوح) ويجب أن يكون (ساكناً)، وعينها (مكسورة) ويجب أن تكون (مرفوعة)، وهكذا مضى صديقنا في جنونه التصحيحي، حتى كنت أخشى أن أجده يوماً في ميدان التحرير واقفاً “يدسك” حركة المرور، و”يحرر” المخالفات.
أمراض الدسك المركزي
اخر المقالات من سيرة الحنين والفوضى
كانت القصيدة امرأة مراوغة إلى حد الخيانة، تلك الخيانة الطيبة التي لا تقتل بل تدعو إلى
قال الطبيبُ: ساقكَ اليسرى مرهقةٌ والألم صوتها الذي لا يسمعه سواكَ. انتبه.. لأن الموتَ قد يبدأ
بالأمس قررت أن أكون وحيداً مع صوت “إنيجما”، قررت أن أكون مخلصاً لها لمرة واحدة، وفي
في لحظة ما تبدو الكتابة كمن يضع الملح على جر اح مفتوحة في لحظة ما لا
انتظروني قليلاً، بضع سنوات لأتخلص من دموعي في أقرب مقهى، وسأعود بعدها لأراقبكم من جلستي الجانبية،