أرق النموذج

قبل عشر سنوات رأيته في زيارة لصديق مشترك حين كان قادماً في إجازة إلى القاهرة، جلسنا في شرفة شقة تطل على شارع هادئ في ضاحية المعادي القديمة، وأشار صديقنا – بعد أن قدّمنا في تعريفٍ مختصرٍ- إلى لوحة معلقة على الجدار خلفنا، وقال: ” إحدى لوحات المزروعي “، كانت هذه اللوحة بالذات تثير انتباهي كلما جئت صديقي زائراً، ومع غيرها من تفاصيل صغيرة، وأحاديث جادة وساخرة، بقيت جزءاً من مشهد أثير في الذاكرة كلما خفق القلب في تعب وحنين إلى كل ما مضى بعيداً.
في تلك الليلة استمعت إلى المزروعي متحدثاً عن الشعر، والقصة، والتشكيل، والنساء والحب، وكان في كل ما يقول يصنع تلك الطرقات الغامضة التي تأخذك بقوة إلى متاهات كبيرة، والغريب أنك تحب المتاهة وتستهويك، لا لشيء إلا لكونها مصنوعة باحترافٍ من فنان يقف، ويجلس، ويتحرك، وينام على قلقٍ. فنان يكره أن يكون مكرراً حتى في ظهوره المفاجئ، واختفائه المباغت عن أصدقائه، ويرصد عبر روح ثانية نفسه، فتجد صراعاً يفجر كتابة أخرى وأحوالاً مغايرة، ونصوصاً ولوحات تقسم بينك وبين نفسك أن كثيرين يقدرون على فعل مثلها، لكنك حين تقرأ وترى جيداً، توقن أن ما اصطاده المزروعي لا يمكن لأحد أن يصطاده، قد تصدمك جرأته، ويستوقفك جنونه، وتنفر من مفردة قاسية أو خارجة، أو تضيق بجملة تستبدل النظرة بالتنظير، إلا أنك سرعان ما تعود وتهمس : إنه المزروعي ..
هكذا جرى الأمر، جئت إلى أبو ظبي، ووجدت المزروعي حاضراً في المشهد الثقافي والإنساني، حاضراً بغرائبه وإبداعه، لم تتوطد علاقتنا، بل بقيت كما كانت تجيء مصادفة كما جاء لقاء الشرفة البعيد، وإذا واعد أحدنا الآخر على فنجان قهوة، اشتركنا معاً في عدم الوفاء بالوعد، وكأن في الأمر جمالاً حافظنا عليه من رتابة المواعيد المتحققة•
ومنذ أيام جرت مصادفة أخرى، حين أهداني مجموعته الأخيرة، النص الشعري الطويل الذي يطارده منذ أكثر من ثلاث سنوات، وكان يخشى من فقد العنوان الساحر الدال ” أرق النموذج “، وحين وقعت عيناي عليه ابتسمت، فيما أغراني العنوان بعنوان صحفي لائق بالشاعر وحالاته، فقلت: ” المزروعي.. نموذج الأرق” !
هو المزروعي، شاعراً، وإنساناً.. نموذج للأرق الأبهى الذي يمطره غرابة تليق بروحه، لكن لا تصدق انشغاله بالفناء، حتى لو رسم العتمة بمهارة:
(روحي تائهة
وحدها تائهة
ترسم على السرير جسمي
مشغولاً بفنائه)
مرة أخرى لا تصدقه لأن انشغاله الحقيقي، ومصدر قلقه الأبدي هو المقابلة بين الخلود والعدم•
وعليك حين تقرأ المزروعي في ” أرقه النموذجي” .. أو في ” نموذجه الـمُؤَرِّق” .. أن تبصر البياض بين سطر وآخر، وتقديم جملة على أخرى، وتصغير هذه، وتكبير تلك، وأن تستعين بهوامشه الشعرية للدخول إلى تمام نصه، وإلى قصده النهائي- ربما- الذي أورده في مدخل لا يبرر بقدر ما يحمل من تأويل: ” من هنا يكون العبث هو الضرورة المنطقية لرفض أية تراتبية كانت، كي لا تنأسر الذات برموزها اللغوية ”
أسئلة المزروعي الشعرية لا تطالبك بالإجابة، بل تهديك القلق بكرم حاتمي، هو لا يضعك في المقابل أمامه ليتلو عليك عذاباته، وأحواله، وتجلياته، بل هو يشدك – ربما من ياقة قميصك، أو حتى شرايين قلبك- لتدخل معه إلى القصيدة وتحترق بنارها، وحيرتها، ونوافذها المفتوحة على السؤال:
( أليس كُلُّ ما مررنا به
وبمجرد الانتهاء منه
يعود مرة أخرى) ؟
ربما، لكن المزروعي يعود مغايراً لكل ما قدمه من قبل منذ ” في معنى مراقبة النار” عام 1988، وحتى ” لكنك أنت يا آدم ” عام 1998، وإذا كان ثمة حضور لافت للعقلانية على حساب الشعرية في بعض مفردات نصه ” أرق النموذج”، إلا أن ذلك كان هاجساً غير بعيد عنه، وكأنما كان يدرك أحياناً ضيق اللغة أمام سعة المعنى، فيسأل: ” ما الذي يتحتم عليّ فعلُه، لتحوير وتحويل ” الفكر الشعري” من الكتابة إلى التقصي؟ سؤال في هامش قصيدته الطويلة، يفتح المزروعي بوابة أكبر لقلق فني جديد، لا يعيش أبداً دونه، ولا يطيب له الأرق إلا إذا كان مثقلاً بالكتابة واللوحة، فيما يبقى موعدنا المنسي عن قصد بعيداً عن رائحة قهوة تنتظر.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

نذالة طيبة

المقالة التالية

عفريت الجبل الغربي

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت