أرض المعارك الخاسرة



جاهزون للاشتعال…
قلوبنا مدورة كقنابل صغيرة يمتد طرف الفتيل خارجها منتظراً عود ثقاب، وكثيرة هي أعواد الثقاب: كلمة جارحة من حبيبة غاضبة، خيانة جديدة من صديق قديم، رسالة مكتوبة بحبر أسود مملوءة سطورها باللوم والضيق، نظرة عابرة تكشف أرصدتنا الخاسرة في عيون الآخرين، خطأ ما يحوّل الليلة الجميلة إلى كابوس، موعد لم يحضر فيه أحد، قهوة باردة بلا وجه، قلم يجفّ حبره حين تفيض الروح بالكتابة، تليفون صامت إذ يسكننا الحنين إلى صوت عذب، إشارة مرور كثقب إبرة، حياد الجدران الرطبة بعد منتصف الليل، صباح يخلو من امرأة حلوة في نعاسها، عربة مغلقة على رائحة سائقها، سيجارة مثقوبة لا تصلح للتوحد فجراً، باب خشبي لم تلمسه يد.

قلوبنا قنابل صغيرة يمتد طرف الفتيل خارجها منتظراً عود ثقاب، وكثيرة هي أعواد الثقاب: صورة عائلية باهتة على الحائط، هدايا مدفونة في هواء الحقائب، ساعة جدارية يخرج الوقت لسانه منها، فيلم تافه تجبر على انتظاره، شاي خفيف في مساء ثقيل الذكريات، عطر عابر يردك لوجه امرأة لم تكن عابرة، اسم مشابه لجرح مفتوح على وجع قديم، شارع خالٍ من إيقاع الخطى البعيدة، أرق لا تطرده حبوب النوم، يقظة الشياطين في عصب الأسنان، أغنية ترددها باكياً في منتصف الوحدة، رائحة الماء على تراب شارع صغير راقب طفولتك الشقية، جدار حديقة البيت المائل قليلاً، أسماء من استردهم الله، أسماء من تغيروا.. وتبدلت بهم الأحوال، رقم بيتك الأول، الطابق الذي اتسع لجنونك السري، المقهى الذي غادرته الألفة يوم غادره الأوفياء، قطار الثانية عشرة ظهراً، امرأة صغيرة ناعمة تجاورك في عربة المترو، شجرة الليمون الوحيدة بين شجر البرتقال، ظل النخلتين المتجاورتين على يسار البيت، طفولة قلبك المرهونة بالاختبارات، نومك العصي ويقظتك المفاجئة تحت ضوء خفيف.
قلوبنا قنابل صغيرة موقوتة، وساعات الصفر كثيرة: قلة الحيلة أمام عظمة الهمّ، شعرة بيضاء في بدء الأربعين، الحرث في الماء حين تتسرب الأحلام، تخيل الجد العجوز في رقدته الأخيرة، انحناءة ظهر الجدة في الخامسة والسبعين، وهروب الضوء من عينيها، مشهد البيت الطينيّ قبل أن يتطاول الحديد والأسمنت، مجرى الماء الضيق وأسماكه الصغيرة الجائعة، الالتفاف حول موقد النار في ديسمبر البعيد، إغماضة العينين في طفولة خائفة من الشياطين والعفاريت، البكاء المرّ أمام مقابر التراب، قميص التي غابت في الجمعة الحزينة، رسالة هاتفية قصيرة تؤرخ لجنازة القلب، آخر ما قالته المستحيلة في مارس الفقد والحنين.

كثيرة هي القنابل الموقوتة في القلب، كثيرة هي أعواد الثقاب المشتعلة قرب ألغامنا الراقدة تحت عيوننا المثقلة بالوجوه والأماكن والحكايات أي أجهزة دقيقة تلزمنا لإبطال مفعول قنابلنا الجاهزة للانفجار؟ أي خبير يقدر على أن ينزع الخطر عن أرواحنا، ويغسل الذاكرة من طفولتنا البعيدة؟··
تُرى كم قنبلة تنفجر في القلب حين يقودنا الحنين إلى أماكن ليست منزوعة الألغام، إلى شوارع، وصور، وأسماء، ووجوه ضاعت في رحلة الوقت·· والحياة؟
قلوبنا أرض المعارك الخاسرة·· والذاكرة بيت القنابل والألغام والحنين.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

غفلة الضوء

Default thumbnail
المقالة التالية

الأصدقاء الخونة..الأصدقاء الطيبون

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت