أرز الملائكة


(الساعة الرابعة صباحاً)
خُذْ روحك إلى النوم، أيها المتْعَبُ، يا ابن القلق والأسئلة، ادخل إلى سريرك بطيئاً كسلحفاةٍ عمياء، تتحسس وسادتك التي تعطرها بلا فائدة، المرأة المعلقة على الجدار ماتت قبل ألف عام، المرأة التي تنام في إطارها الخشبي وحيدة منذ باعها الرسام العجوز، تقدم خطوتين، أغلق الموسيقى التي تجركَ إلى أرق الأسئلة، نَمْ.. نَمْ كغريق ولا تخف كوابيسك الواقفة على حافة السرير، اقرأ الفاتحة والمعوذتين وانطق بالشهادة التي ستنجيكَ إذا لم يكن لك صباح.

(الساعة السادسة صباحاً) تتقلب كأنما سريرك من شوك ونار، تزدحم حولك الوجوه التي تركتْ يدكَ ممدودة في الهواء، نومكَ خفيفٌ توقظكَ اهتزازة الستائر حين يبثها المكيّف برودته، والملائكة لا تأخذكَ إلى مائدة الأرز، مالكَ لا تغط؟، مالأنفاسك لا صوت لها؟ أين أنت الآن في مملكة النوم؟ على أولها؟ على بابها الخلفي؟ أمام نافذة مواربة لا تتسع لأرق سنواتك الثقيلة؟ أمْ أنكَ افترشت الأرض وحيداً ومطروداً من جنة النعاس؟ (الساعة السابعة صباحاً) حالكَ حالُ مَنْ يقاتلُ عدواً، نائمٌ أنتَ أخيراً لكنكَ تحرك يدكَ اليمنى في الهواءِ، أينَ سيفكَ؟ مَنْ يبارزكَ في كابوسك الألف؟ هل ترى وجه الذي يجهزُ قبركَ؟ هل تعرف اسم التي وضعتْ السم في كأسكَ؟ تحركْ قليلاً، لا تدع الموتى يأخذونكَ إلى آخر العتمة، لا تمد يدكَ إليهم، ها أنتَ تهمهمُ بالكلام الذي لا تعرفه المرأة في إطارها الخشبي، تمهل، لا تذهب خلف جنازتكَ، بعد قليلٍ ستفلتُ من كابوسكَ الصباحي. (الساعة السابعة والنصف صباحاً) لا تنم على جهة اليسار، قلبكَ لا يطيقُ ما أنتَ عليه، ظامئ في رقدتكَ، ريقك جافٌ كأرض لا سماء تمطر فوقها، زجاجةُ الماء كشاهد قبر بجواركَ خذها، خذها ما بين اليقظةِ والنوم وابتلع ماءها، وإياكَ أن تصحو، إياكَ أن تخرج من نومكَ الذي دخلته متأخراً، المدينةُ لا تسألُ عنكَ، إشارات المرور لا تسألُ عنكَ، المرأةُ التي تحبُ أبعد من أن تسألَ عنكَ، عاملة المقهى والمطعم لا تسأل عنكَ، صديقكَ الذي اصطفيته لا يسأل عنكَ،أنتَ كما أنتَ.. وحيدٌ في البيتِ في المقهى.. في الشارعِ في الكوابيس. فَخذْ من نومكَ ما استطعت، واسترد روحكَ من تعبِ الأرقِ والسؤال. (الساعة الثامنة والنصف) ها أنتَ تفتح عينيك قليلاً، تديرُ رأسكَ باحثاً عن آلة الوقتِ، فاسترحْ، الساعةُ الثامنةُ والنصف، ستائركَ تحجبُ الضوء عن قبركَ، والهاتفُ مغلقٌ على أشباحهِ، نَمْ ثانيةً، عيناكَ منتفختان بالحنين إلى وردة الحدائق، وقلبكَ بوابة الريح، نَمْ قبل اشتباك الحفارات بصخور الشارع المقابل، أغمض عينيكَ تماماً، وامسح ذاكرتكَ من تراب القرى، خسائركَ في انتظاركَ على البابِ، كيف تجرؤ على اليقظة الآن••؟ (الساعة العاشرة صباحاً) قُمْ من نومكَ، قُمْ من ميتتكَ الصغيرة، اغتسل من الفقدِ والكوابيسِ، ادخل في قميصكَ الأزرق، وقُلْ: “صباح الخير أيها الحزن”، ها هي القهوة السوداء تناديكَ بشغفٍ، والورق والأقلام على طاولةِ لها لون التوابيت، اكتب، وابتسم في وجه الحارسِ والسائقِ، وبائعة التبغِ، والخادمة التي تضيق بفوضى البيتِ، ضع بصمتكَ هنا.. هنا على آلة الحضور والغياب، وأنفق ما تبقى من عمركَ في السؤال عن الحقيقة، عن شجرٍ يموتُ أسرعَ مما توقعتَ. (تمام الساعة.. تمام السؤال) يُروى عن الشاعر صلاح بن جاهين غفر الله له، أنه قال في رباعيةٍ من رباعياته: يا عندليب ما تخفش من غنوتك قول شكوتك.. واحكي على بلوتك الغنوة مش ح تموتك.. إنما كتم الغنا هو اللي ح يموتك عجبي

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

صديق المؤامرة

المقالة التالية

في احتراق الدم والوقت

اخر المقالات من سيرة الحنين والفوضى

THE VOICE OF ENIGMA

بالأمس قررت أن أكون وحيداً مع صوت “إنيجما”، قررت أن أكون مخلصاً لها لمرة واحدة، وفي