أحزن طفل في العالم

من سوى محمد الماغوط  يعاقب حبيبته حين تخونه بغير ما يعاقب الناس: (شعركِ الذي كان ينبضُ على وسادتي، كشلالٍ من العصافير، يلهو على وساداتٍ غريبة، يخونني يا ليلى، فلن أشتري له الأمشاط المذهبّة بعد الآن؟).

قمر حزين في سماء يطل على طابق ثان لا سقف له، قمر وحيد يراقب فتي جالساً في عزلة الورق والأحلام، والخطوات معلقة في قدميه إلى مجد كان يحسبه غير زيف، قمر مكتمل إلا قليلاً، وفتى لم يكن ينقصه الجنون لتزيده جنوناً. أنتَ الذي غيرت دمه، وعلمته أن للكلمة روح، وللقصيدة مئة ظل أو يزيد، لا ظلاً واحداً يتيماً. أنتَ بائع الحلوى أمام البيت، والنداهة خطافة الأولاد في ظهيرة الحر والصمت، وأنتَ عفاريت المقابر الملقاة على مدخل القرية، العفاريت التي تبتكر القلق والسؤال، لا الخوف والغبار.

أنت الغامض المتوقع في ظلمة حالكة، هواء الرئتين في ضيق المكان، يوم كان الفتي لا يستطيع فرد جناحيه. أنتَ سائق القطارات التي كان يسقط صوتها من بعيد على سريره، فيظن أن للسائق هيئة كائن خرافي، وأمامه خرائط بهجة ومدن وجنيات كثيرات يضعن الأحمر على الشفاه. أنتَ الموسيقى التي لا شطر لها، ولا وزن يسبقها، ولا لحن تقع فيه غير ما لها من لحن لا تقع فيه ولا يتوقعه وزان.

 أنتَ قرين الفتى يوم اعتزل الناس، وهجر مجالس اللهو ليربي سؤاله في السر، ويجهر بذنب كتابة الحب والنساء. أنت ولا أحد غيركَ قتل الفتى كما يشتهي أن يُقتل، واستبدل له قلبا بقلب، ودماً بدم، وأهداه أكياس نثر مملوءة بحلوى الشعر، وفواكه الشعر، وشياطين الشعر.

لم يكن الفتى يقدر أن يقطع تذكرة قطار خلف كلمتك، لم يكن يملك غير أن يدخر ثمن مجلة  ربما يأتي ذكرك فيها عرضاً، لكنه حين امتلك جرأة الطلب، حين استرجله أبوه بسؤال: ماذا تريد من مدينة عاصمة ذاهب إليها في شأن ومصلحة؟ قال الفتى ومد يده إلى أبيه بورقة وعنوان: أريد هذا الكتاب، فظنت طيبة الأب أن الكتاب سيمهد للفتى مقعداً غير ما يعرف آباء التلاميذ والطلاب، وكان كتابك الذي قرأ عنه، أعمالك التي علقته في سعف النخيل طائرا ينشد بلاداً بعيدة، ودموعاً جديدة، ونساء قادرات، ومطراً، وشوارع، وأقداما حافية على أسمنت لا تراب.

 ذهب الأب وعاد بكتاب أعمالك، بغلافك الأحمر، بالقطع المتوسط. عاد الأب إلى الفتى بجنتك وجحيمك، بأحزانك التامة، فإذا هي جريمتك الكاملة، جريمتك التي جهز لها الفتى روحه سنوات طوالاً، كأنما كان ينتظر طعنتك الفاصلة، ويقول لك: افعلها، هذا دمي فغيره، هذه عيناي فضع لي عينين مثل عينيك لأرى كما ترى، وضع لي أصابع مثل أصابعك لأرى بها كما ترى، وضع لي قلبا مثل قلبك لأرى به كما ترى، فصار للفتى معك ألف ألف عين، يرى بعينيه، وبأصابعه، وبقلبه. كـأنما كان يمسك بيدك صارخاً: افعلها، اغرس سكين جرأتك، اغرس سكين رؤيتك، اغرس سكاكين تجريبك وتخريبك وهندسة عمرانك، فلم تبخل عليه بأمنية، لم تبخل عليه بتجربة أو تجريب، بهدم وبناء، بطيش أو جنون، بحزن أو بكاء.

ذات شتاء، يذكر الفتى، حين جئتَ المدينة العاصمة ضيفاً على روحها وأمسياتها، كسب منك موعداً، اجتاز مرتبكاً نجمات الفندق الخمس، وقف أمام غرفتك، ولثوان خاطفة بدا له كأن بابك غلاف لأمنية تكاد تتحقق، ما عليه سوى أن يطرق الخشب اللامع بأصابعه، ما عليه سوى أن يقلب الغلاف ليرى صفحة وجهك، وبدا للفتى أن مسافة ربع الذراع بينه وبين الباب أطول وحدة قياس عليه أن يجتازها.

طرق الفتى الباب ففتحته بحزن، ورحبت به بحزن، ومشيت خطوات إلى شرفة الغرفة بحزن، وجلست وأجبت وطاردت ضوءا بعيداً لسيارة مجهولة بحزن، كان الفتى يلهث بالسؤال، وأنت تربت بصوتك الحزين على كتفيه.

نعم، لا أحد سواك كل كلمة منه قصيدة، وكل فعل منه قصيدة، وخبر موتك ألم يكن قصيدة تحمل اسمك:”مات الماغوط ممسكاً بسماعة الهاتف”.

نعم، أنت  الغريب الغرائبي، غاسل اللغة بمطر ودموع، فلا أحد سواك يكتب على قبر زوجته: “هنا ترقد آخر طفلة في العالم”، ولا قبر غير قبرك أود أن أكتب عليه الآن: هنا يرقد أحزن طفل في العالم

 

 
 مقال ( كاريكاتيزما ) – مجلة الصدى – 5 يونيو 2011

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

وكالة شلبي

المقالة التالية

في يوم.. في شهر.. في سنة

اخر المقالات من تحت ظلال الآلهة

سارقُ النار

لا لغة تقدر أن تكون الريح إذا شاءت أن تصف الريح إلا إذا كان كاتبها عاصفة،

العبقري

  كان غبار القرى لا يزال رائحة قميصه حين كانت تتكرر مصادفات المصعد في المبنى الزجاجي،

ما أجمل ضحاياك

قبله هل كان الشعر يمشي على الأرض؟ قبله لم يكن للشعر قدمان، كان له أجنحة لا

من يكره فيروز؟

  أنا أكره فيروز طاوعه لسانه وقلبه مرة ونطق بها، تورط في غضبة الغيرة، ولم يكن