خلا بيته من طعم العسل وطنين النحل بعد عام من سفره، وبدت الصناديق الخشبية خلف البيت كشواهد قبور، واختفت علب العسل الصفيحية التي كانت تدور على جيرانه وزواره كهدايا لا ترد.
كانت ليالي جني الحصاد الشهي عامرة بالسهر والحكايات، صوت ” الفرّاز” الذي تدور في جوفه البراويز الشمعية يصنع خلفية مناسبة لحماس الفرحين بخيوط العسل المختلطة بقطع صغيرة من الشمع الأبيض والبني، ينفتح فم ” الفراز” لينقل الحصاد الحلو إلى مصفاة من قماش خفيف شفاف، يتحرر بعدها العسل صافياً له لون وطعم زهور وأشجار المواسم.
يفد الجيران والأصدقاء، وتصبح قطع الشمع الممتلئة بعسلها علكة شهية، فيما يقف هو بقامته المشدودة وسمرته الرائقة محذراً من ابتلاع الشمع، غامزاً بعينه لصديقه وهو يدس في يديه ملعقة صغيرة من غذاء الملكات، فيزهو الآخر حالماً بحيوية تعوض الصحة الضائعة يوم ضاعت راحة البال.
على الطريق الترابي- قبل أن تمهده العربات الثقيلة ويغطيه الإسفلت – يجر العجائز أقدامهم المثقلة بالروماتيزم قاصدين النحّال الطيب، يجلسون أمامه شاكين صليل الركبة، طالبين لدغة أو لدغتين من النحل الذي يشفي من يقظة الآلام في العظام، يذهب ويعود ممسكاً بين أصابعه بنحلتين أو ثلاث، ويلدغ بها الركب المتعبة، ويرجع الحالمون بنوم هادئ مسكونين بوهم الشفاء المؤقت حاملين علب العسل المهداة.
لم يكن النحّال الطيب تاجراً مراوغاً، لم يعرف يوماً كيف يغش العسل بالماء والسكر، وكيف يزايد في السعر حين تجف المناحل ويبقى عسله نقياً، وحين عرض عليه العمل في بلد بعيد وافق مرغماً وهو يرى أبناءه يكبرون في ظله فتكثر أحلامهم وتضيق ذات اليد، لم تكن الأرض والمناحل تكفي الحاجة وهو الذي آثر دائماً ألا يرى في عيون أولاده انكسار الحلم والرغبة، كان عزيز النفس، أنيقاً في جلبابه، وشاربه المتميز كصقر جبلي يفرد جناحيه أسفل أنفه.
يوم سافر، تحدث الناس عن سفره، روى القرويون في لياليهم الظامئة إلى جديد الحكايات، كيف يسافر شجر الجميز العتيق بعيداً، وكيف يترك النحال الطيب أهله وسيرته الجميلة ليطارد حلم أبنائه.
لكنه- يوم سافر- لم يقل شيئاً، كان صامتاً كشجر الصفصاف، ودع زوجته وأم أولاده، ونهرها بنظرة حين بكت، وأطل على المنحل خلف البيت وأوصى ابنه الأوسط به، لكن عاماً واحداً من غيابه حوّل الطنين إلى صمت حين هجر النحل صناديقه الخشبية، كأنما طارت الملكات بجنودها خلف رائحته البعيدة.
عشر سنوات وهو يربي النحل في بلد آخر، يذهب وحين يجيء يقف بشروده الحزين أمام الصناديق الخشبية الفارغة، القبور الشاهدة على مجده القديم، لا تهزه الريح، يقف مشدوداً في حزنه القروي الثقيل، كاتماً دموعه التي لا يعرفها أمثاله من الرجال وفي الليالي التي ينتصف فيها القمر، وتختلط رائحة الشاي بدخان السجائر، يروي بفرح عن أسرار النحل وغرائبه، عن الشغالات والملكات الملونة رؤوسها، عن الذكور الكسالى ومشهد الطيران خلف الأنثى، عن الموت مقابل الحياة لحظة التلقيح والتكاثر، عن عيون الشمع حين تمتلئ عسلاً فتختمها الملكة بفمها العذب، ينصتُ الحضور حتى يأخذهم جلال الحكمة فيهتفون بين اليقظة والنوم: ” سبحان الله “
وحين يصمت تصبح عزلته سجناً، يتابع أبناءه وأحفاده باتكاءة العصر أمام البيت دون أن يقول شيئاً، فارقته السجائر يوم فارقه الكلام عن النحل وأسراره، أغلق باب الذكريات حين انفرط عقد الأمنيات المعلقة برجوع النحل إلى صناديقه المخبوءة في الغرفة المظلمة.
يقولون له: دع الأرض والزرع لأبنائك.. واملأ البيوت الخشبية بالشمع والنحل، يهز رأسه ويتحسر على زمن لم تكن فيه على الرزق ” ضريبة مبيعات “، ينعى بكلمات أياماً كان فيها العسل صافياً غير مخلوط بالماء والسكر، ويغير جهة الكلام سائلاً سائليه عن الصحة والأحوال.
ذات يوم قال: لا.. وأقسم ألا يسافر، مزق تذكرة العودة، غرس أرضه بالقمح والذرة والقصب، راقب أبناءه والشوارب تنبت تحت أنوفهم، زوّجهم القريبات الطيبات، رمم ما يكاد يسقط من عز البيت والعائلة، أخذ مكانه في صدارة المجلس يحل ويربط ويحكم بين الناس بالعدل قبل أن تحكم بينهم محاضر الشرطة وقاعات المحاكم.
هناك، في قرية صغيرة على هامش الملكوت، ثمة رجل طيب لا تحرق قلبه سوى جمرتين من الحنين: ابنة جميلة استردها الله في غربته يوم كان يغيب، وبيوت خشبية هجرها النحل حين كان في البلد البعيد.
أحزان شجر الصفصاف
اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا
لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر
ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما
كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم
ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن
وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت