أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل.

لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن يقرأون له ويتابعونه إذا صادف ورأيته على قناة فضائية يعلق أو يروي أو يستفز محاوره، حتى وجدتني ذات مساء جالساً إليه وجهاً لوجه مسكوناً بجملة واحدة قادتني إلى معرفته، جملة واحدة قالها لي رئيس التحرير: اذهب إليه وافتح خزائن ذاكرته، فإذا بي أتورط في محبته.

لا تستطيع مهما حاولت أن تكون محايداً، ربما تنجح إذا كنت مهنياً محترفاً أن تضع مشاعرك جانباً وأنت تحاوره، تستفزه كما يستفز هو الآخرين، وتحاصره بالأسئلة، وتنبش في أسراره وخباياه العميقة، وتشجعه – بدهاء طيب – على أن يذكر الأماكن والأسماء دون الهروب إلى صيغة (المبني للمجهول)، ربما تقدر أن تملأ الدلو كاملاً من بئره مرة بعد أخرى، لكنه لا ينضب وأنت لا تكتفي، فثمة أشياء لم يقلها دائماً، وثمة وقائع لم يذكرها دائماً، فهناك دائماً ما لم تصل إليه، وبئره عميقة إلى حد مخيف.

لا تستطيع مهما حاولت أن تقاوم دهشتك أمامه.. دهشتك مما يحمله هذا الرجل على كتفيه من تاريخ شخصي يتقاطع مع أحداث وتواريخ كبرى سياسياً وثقافياً وفنياً، ودقيقة من السرد بعد أخرى تجد نفسك مأخوذاً بما يقول، وأنت معلق بطريقته في الحكي كأنه يمسك بك من رقبتك ومن ثم عينيك وأذنيك فلا تستطيع أن تدير وجهك وحواسك بعيداً عن مجاله المغناطيسي، تسمع وتضحك وتدمع عيناك وهو يروي عن هذا وذاك، عن هذه وتلك، وعليك أن تحصي خلفه أسماء من عرفهم وصادقهم وحاورهم وعاش معهم: بدر شاكر السياب، زكي طليمات، العقاد، طه حسين، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، عبد الحليم، فريد الأطرش، محمود المليجي، عبد الوارث عسر، يحيى حقي، وغيرهم ممن تضيق بهم هذه المساحة، وهو لا يكتفي بذكرياته عن أعلام السياسة والثقافة والفن، فلديه خزائن معبأة عن آخرها بحكايات ونوادر عن المهمشين في المدن الكثيرة التي عاش فيها وأحبها، وسيكون لك ألف عذر لو أنك – بدايةً – لم تصدقه، وقلت بينك وبين نفسك: إنه يبالغ.. يبالغ.. يبالغ، لكنك ستبتلع ريقك الجاف أصلاً من فرط دهشتك حين يضع أمامك مئات الصور الأبيض والأسود وفيها يبدو جالساً وواقفاً من قلبه بجوار ومع وبين كل الذين حكى عنهم.

أحياناً أشعر بأنه تاريخ يمشي على قدمين.

أحياناً أشعر بأنه ذاكرة بحجم مدينة مملوءة بملايين الوجوه والأسماء وعناوين الكتب وصفحاتها.

أحياناً أشعر بالشفقة عليه مما يحمله، كل شخص تعرف عليه يوماً واقتسم معه الوقت والحزن والفرح ترك لديه تفاصيله ومات أو غاب بعيداً، فإذا الرجل شقي بما يحمل من ذكريات.

في عينيه فرح بالحياة كطفل وهو الذي تجاوز الستين بسنوات.

في قلبه شغف بالحب، بالمرأة، بالسفر، بالجديد والمغاير.

وطنه حيث يحب الناس.. ويحبونه.

لا يضيق صدره حين يرن هاتفه عشر مرات متتالية في نصف ساعة، فيرد، ويرد، ويرد، يهدئ الثائر، ويعاتب المخطئ، ويداعب الذي يفاجئه بنكتة لم يسمعها، ولا ينام إذا عرف أن شخصاً ما قابله صدفة قد وقع أسير المرض أو الحاجة، يبحث في ذاكرته عن أهل الخير وهو أولهم، فيضمد جراح من اختبرتهم الحياة كاتماً بضحكته المجلجلة جراحه الكثيرة، مبتسماً حين يخاطبه صديقه بلقب أبو الأيتام.

ومن يومها

من يوم أن ذهبت إليه على جناحي كلمة رئيس التحرير: اذهب إليه وافتح خزائن ذاكرته..

من يوم أن تورطت ورطة جميلة في محبة إنسانيته

من يومها لا تفارقني حكاياته.

أمشي بها، وأستعيدها كصورة لتحولات الحياة، لقدرة رجل واحد على أن يسير هكذا خفيفاً.. مرحاً.. وطفلاً، فيما تنام على كتفيه أزمنة بأهلها وأماكنها، بأفراحها.. وأحزانها.

هكذا.. أن تكون رجلاً في زمن، أسهل كثيراً من أن تكون زمناً في رجل.

هكذا.. يذهب ويجيء أبو الأيتام..

وخلفه

ومعه

وأمامه

تتقاطر الحكايات والأيام.

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

المقالة السابقة

حلم نبيل

المقالة التالية

عم فايز

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت

بعض ما قالته العجوز

كان القطار يزعق كقتيل ظامئ وهو يأكل المسافات هابطاً من الشمال إلى الجنوب، والشمس مختنقة بلا