أبوالعباس.. أبو الرجال



هو أول من جاء بالتليفزيون الملون إلى قريته الصغيرة النائمة في الغبار والسكون، ذات يوم بعيد اخترقت السيارة البيجو البيضاء الطريق الترابي حتى توقفت أمام البيت الطيني القديم المطلّ على مجرى المياه الصغير الراكد بفعل الحشائش التي أوقفت حركة الماء والنفايات، نزل ” أبو العباس ” من السيارة ليحتضن أطفاله الذين كبروا قليلاً في غيبته، كان شاباً مفتولاً مثل حبال جيدة الصنع، ملامحه الفرعونية منحوتة وبارزة على سطح وجهه الطويل، وشاربه يرتفع من ناحيتيه كفرعي شجرة صفصاف خضراء على مدخل حقل أليف.

كان يذهب ويعود إلى ليبيا يوم كان السفر إليها فاتحة للمال وفرحاً للبنين حين يلتفون حول الغائب القادم بالملابس والهدايا الغريبة الغارقة في العطور الرخيصة المعلبة في زجاجات ملونة، تغري أولئك الذين لم يتعطروا سوى بالبخور وعطور ثقيلة سوداء تبيعها السيدة العجوز وتقايض الراغبين فيها بالقمح والشعير والذرة.
وقفت السيارة البيضاء فهدأت خلفها سحابة الغبار، وطلّت الرؤوس من فتحات النوافذ الطينية في البيوت المجاورة تحسد أهله على ما حملته السيارة من حقائب ولفافات ضخمة حاصرتها الأعين بالرغبات والأسئلة والتخمينات، فيما تمنى الأقربون أن ينالهم حظ الهدايا بقطع قماش من الصوف، أو جلباب رمادي يتباهى به الابن أو الأب في سهرات العائلة•
أنزل ( أبو العباس ) ومستقبلوه حقائبه من فوق سطح السيارة، تمهل قليلاً في إنزال التليفزيون الضخم ربما ليظل لثوانٍ كرأس جبل فوق السيارة، ” كام بوصة؟” تساءل الأطفال والكبار وهم يراقبون الكرتونة الضخمة، وحين تبارى ثلاثة رجال في حمل التليفزيون إلى البيت، تناقل الصبية خبر تليفزيون ” أبو العباس” الملون الذي يقترب حجمه من السينما، لم تكن القرية حتى ذلك الوقت تعرف غير الأبيض والأسود، ويوماً بعد يوم تحـول بــــيت ( أبـو العباس) إلى مزار للصغار والكبار، وتحدثت القرويات بخجل وحياء شديدين عن نساءٍ من كوكب آخر يظهرن على الشاشة أنصاف عاريات وملونات الثياب والخدود والشفاه، وحين تغلبهن الغيرة والحسد يلعن التليفزيون الملون الذي جرجر الأزواج إلى السهر حتى نهاية الإرسال، ثم يعودون بالنقمة إلى بيوتهم وزوجاتهم المتعبات من الأولاد وشؤون البيت التي لا تنتهي.
سافر ( أبو العباس ) وعاد كثيراً، وحين كبر ابنه البكر ونبت شاربه أسفل أنفه أرسله إلى بلاد الغربة بدلاً عنه، وقنع هو بفلاحة الأرض وتجارة المواشي ومشاركة الرجال في السهر وسرد الحكايات تحت أضواء المصابيح الخافتة، وأضاف بقاؤه سطوة لعائلته ومهابة، وهو العصبي المقدام الذي يصد عن أهله وذويه كيد المتربصين والراغبين في العراك، وحين تقع المعارك الصغيرة والكبيرة يحمل نبوته المقطوع من خشب الصنوبر، ويضرب في الرؤوس والأكتاف فيهرب أمامه الرجال حتى لا تقع ” الفأس في الرأس” وتجري الدماء، تاريخاً من الثأر.
ثلاث زوجات في بيت واحد، من يفعلها سوى أبو العباس”، حكم قبضته عليهن فصرن أليفات في ظله، مطيعات لا يرفعن صوتاً بالغيرة أو الضيق، ينجبن الأبناء فيتحابون كأبناء أم واحدة، وإذا حدث وفقدت إحداهن عقلها وصدرت عنها إشارة لغضب أو تذمر، خرجت إلى بيت أبيها لتبقى فيه زمناً، ولا تعود إلا حين يتذكر هو بعد شهر أو اثنين أن يرجعها إلى داره.
الآن.. تعب ( أبو الرجال )، تعب كبده في السفر وراء الرزق وشد الحزام في زمن التضخم والعولمة، ذبل عوده وغارت عيناه من المرض، والتف حوله أبناؤه وأصدقاء شبابه وفتوته، يزورونه ثم يمضون لحال سبيلهم، وفي قلوبهم مرارة الوقت الذي قادهم إلى مشهد لم يكن في الحسبان، وفي عيونهم سؤال الأسى: كيف تغلب المرض- أو كاد – على ( أبو الرجال ).

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.

Default thumbnail
المقالة السابقة

شياطين اللثة

Default thumbnail
المقالة التالية

ذنوب صغيرة

اخر المقالات من لا يدخل الليل إلا وحيدا

عفاريت جرجس شكري

لا أحتاج إلى كثير من الجهد لأكتب عن جرجس شكري، كما لا أحتاج إلى استدعاء التوتر

ثمن الخطايا

ثمة محبة تفيض في قلوبنا عادة تجاه ماضينا حتى لو كان كريهاً، نحن نتلهف إلى ما

عم فايز

كان طيباً وهادئاً، لكنني لم أحبه إلا حين كبُرت، وذهبت سذاجة الطفولة، لم يضر أحداً، ولم

أبو الأيتام

ورطني رئيس التحرير يوماً في محبة هذا الرجل. لم أكن أعرفه عن قرب، كنت واحداً ممن

حلم نبيل

وجه أبيض مستدير، لحية صغيرة غريبة على أهل الجبال المغرمين باللحى الطويلة، طيب القلب كطفل أفلت